د. حمزة السالم
كنت خريجا حديثا لم أبلغ العشرين، حين حضرت برنامجا تدريبيا يتعلق برصد نجوم في السماء، وقد حدد المدرب نجما يقع في الجنوب، لم استطع أن أجده، فاتُهمت بالبلادة والمشاغبة والتشويش. فقد كنا في الشتاء في شهر المحرم، لأكتشف بعد ذلك أن شهر المحرم كان يوافق شهر أغسطس قبل سنين طويلة حين وضع المستشار الأمريكي نموذج العمل، والذي احتفظ به المدرب منذ كان شهر المحرم يأتي في الصيف. فلا تُحدث عن المئات من المتدريبين الذين اجتازوا ذلك البرنامج من خلال سلاسل من التدريبات والحسابات والتطبيقات كلها خطأ ووهم، كان الطلبة والمدرب يخادعون فيها أنفسهم.
-ومعنى عقلية تعبئة النموذج، هو ما يفعله الموظف البسيط في البنك مثلا عند إدخاله معلومات يثمليها عليها زبون طالب لقرض، فتخرج قيمة القرض والدفعة الشهرية، والموظف لا يدري عن المخرجات كيف خرجت. (وهذه بالذات هي مصيبة التعليم الجامعي عندنا. الدكتور والطالب فيها سواء).
«وقد جلست عشر سنين، بعد تهمتي بالبلادة والمشاغبة -بمحاجتي في النجوم- ، وأنا أعتقد أن عقلية اتباع النماذج أو تعبئتها دون أي فهم لها، هي مشكلة مقتصرة على شريحة معينة من المجتمع السعودي. فبذلت جهدي للخروج من هذه الشريحة، لأكتشف بعد عشرين عاما، حجم المصيبة الفكرية العقلية.
«فقد وجدت نفسي مجبرا داخل دائره الفقه والفقهاء. وللفقه مناعة عن الفهم لقدسية دعوى تتبعه لنصوص الوحي، ولما في قلب المريد لشيخه من العشق والهيام المعمي المُصم عن غير بصر وسمع شيخه. ولذا فقد احتجت هذه المرة لعدة سنين، لاكتشف أن دائرة الفقه أسوأ حالا من الشريحة التي فررت منها مسبقا. فتحسرت على سنين أضعتها في بحث مسائل ما كانت تحتاج لسويعات من نهار لو أني تحررت من وهم التبعية الفقهية. فقد كان في انضباطية المنطق وصدق اتباع النص الشرعي، غنى وكفاية. وبتحرر الفكر، ووضوح المنهج، صَغُرت مسائل الفقه، فما عاد في الفقه من شيء يحتاج لكثير جهد أو وقت.
«فانصرفت عن دائرة الفقه لدائرة الدنيا أخوض غمارها. فإذا بي أُصدم في القطاع الخاص والقطاع العام، لأجدهما الأسوأ حالا بلا منازع. فتحسرت على دائرة الفقه والفقهاء، فوالله وبالله على ما بهم من جمود وتبعية وعدم مقدرة لفهم ، إلا أنهم لأنهم أعظم تحررا فكريا وأرقى استقلالية ذاتية عملية من القطاع العام والخاص.
«ومن دلال مصيبة هيمنة عقلية تعبئة النماذج على المجتمع، دعواهم بأن مشكلة التطور عندنا في عدم ملائمة مخرجات التعليم لسوق العمل. وهل السوق إلا تطبيق للتعليم. ولكن مشكلة التعليم أنه خرج من مجتمع لا يقدر على الاستقلالية الفكرية، فالتعليم كباقي المجتمع قد تشكلت ثقافته على عقلية تعبئة النماذج بلا فهم. فالطالب والمدرس والدكتور جميعهم، على عقلية تعبئة النموذج. فهي الطريقة الوحيدة في التعليم والاختبار. وذكاء الطالب والمعلم وفهمه يقاس بمدى مقدرته على حفظ النماذج المختلفة المتولدة من مفهوم واحد. ووالله لفهم تركيبة النموذج وأصل فكرته، لهي أسهل بمراحل من تعلم تعبئته والتعامل معه دون فهم تركيبته. فمن فهم التركيبة، لم يعص عليه بعد ذلك التعامل مع النماذج المختلفة ولو اختلفت معطياتها وأشكالها. ومن فهم التركيبة استطاع التطوير والابتكار.
«وبما أني قد اكثرت الاتهام بلا شواهد ملموسة، فلا بد لي من ذكر شواهد قوية الدلالة، أكره ذكرها، إلا أنني لا أجد مفرا منها لبيان شاهدها.
«ففي اكتتاب الأهلي، اختلقت بنوكا أكثر من عشر أضعاف إمكانياتها النقدية، أو خمسة أضعاف النقد المتوفر في البلاد. والسوق الاقتصادية كلها، باعلامها ومسئوليها ومتخصصيها، في غفلة يباركون عمق السوق النقدية السعودية ويفاخرون العالم بثلاثمائة مليار، وما انتبهوا أنها مُختلقة على غفلة من الفهم والإدارك. وقد التقيت ببعض من له علاقة، قبل كتابة مقالي الثاني المتعلق بهذا. فوالله لقد رأيت دكاترة شباب كالبدور متخرجين من جامعات أمريكية هي أرقى من جامعتي بمراحل. وأكاد أجزم بأنهم أكثر ذكاءا مني وأشد إخلاصا وأعمق فهما، ولكن قد ضرهم دخولهم دوامة تعبئة النماذج بلا فهم.
«فهم مثلا، كانوا يعملون في قسم يدير المعلومات ويفتخر رئيسه الذي أمضى أعواما كثيرة يتخايل في نحافل دولية كثيرة، بأن قسمه سعودي 100%، وما هم إلا يعبئون النماذج التي صنعها المستشار الأجنبي. ولذا لم يقفوا عند عدم إدارك حجم التلاعب بل عجزوا حتى على فهمه. فكيف يزودونا بالمعلومات وما ميزوا العشرين مليار من المائتي مليار. كيف وما لحظوا ضخامة اكتتاب، تطلب نقدا أكثر مما تتطلبه تمويلات البنوك مجتمعة في سنتين وثلاثة. هذا لأنهم كانوا يعبئون النماذج التي وضعها لهم المستشار الأجنبي، تماما كمدرب المساحة الذي كان يتبع نموذج الأمريكي فحرك أنجم السماء تبعا لنموذج المستشار الأمريكي.
«فثقافة عقلية اتباع النماذج بلا فهم، ثقافة قوية غالبة تغلب من يدخلها ولا يغلبها من يدخلها. ولا ينازعها منازع، إلا ويجد نفسه منبوذا وحيدا، أو بليدا مشاغبا.
«عقلية تعبئة النماذج هي العقلية التي زرعها البريطانيون في مستعمراتهم، وزرعناها نحن بأيدينا بفضل البترول، فقدمنا المحسوبيات على بناء العقل لسعودي المستقل. هذه العقلية التنفيذية الاإداركية، هي أصل العائق والمانع لتطورنا الفكري والحضاري. والحلول بسيطة وكثيرة ولكن لا يمكن حل مشكلة ما لم يدركها صاحبها ثم يعترف بها ثم تكمون لديه رغبة لعلاجها. ونحن لليوم لم ندركها ولو أدركناها غدا، فثقافة الإنكار التي نعيشها ستجعلنا نرفض الاعتراف بها. ولو اعترفنا بها، فلن تكون هناك رغبة في علاجها في سكرة النفط.