عبدالعزيز السماري
من المثير للاهتمام أن نحاول رؤية المتغيرات الثقافية والاجتماعية في المجتمع السعودي من خلال زاوية أكبر، ومن الأجمل أن نعيش تلك المراحل ومتعة الانتقال من مرحلة إلى أخرى. ولأسباب مختلفة يتميز المجتمع السعودي بسرعة التغيير من مرحلة إلى أخرى؛ فما حدث خلال الخمسين عاماً الماضية يستحق التوثيق، ثم التفكير فيه من خلال عيون الباحث الذي يحاول أن يرى المستقبل من خلاله.
كانت مرحلة السبعينيات نهاية مرحلة نموذج «القروي»، التي جسدتها شخصيتا سعيدان وعليان في طاش ما طاش، والتي كانت تمثل مرحلة طويلة من التاريخ الشعبي، وتمثل صوراً مبسطة من مراحل الجهل التعليمي، وقلة الموارد المالية، والسلم الاجتماعي. وكان الموديل الأشهر فيها الملابس الرثة والطاقية، وسوء صحة الأسنان، وحلاقة شعر الرأس بالموس، التي كانت تعتبر الوسيلة الأسرع لحل مشكلة كثرة القمل واستيطانه للرؤوس.
بدأت مرحلة الخروج منها في عام 1975 ميلادياً، التي بدأت خلالها مقدمات مرحلة «الصحوة» الدينية، وأشعلها التنافس في مكاتب المساجد بين تلاميذ مدرستي الإخوان والسلفيين، وأطلقتها ثورة حركة جهيمان الدينية، لتبدأ مرحلة جديدة من أهم مراحل تطور المجتمع السعودي، التي حولت القروي سعيدان وصديقه عليان إلى شخصيات منضبطة بالتعاليم الدينية الصارمة؛ لتنتشر ظاهرة الملابس البيضاء القصيرة والشماغ الأحمر بدون عقال، ودهن العود. وخلال فترة وجيزة وصلت شخصية «الصحوي» إلى صدر المجلس. كان أوج عزها مرحلة الجهاد الأفغاني، ونالوا بسبب تلك الشخصية قدراً عالياً من التقدير والاحترام. وانتهت بذلك إلى الأبد شخصية القروي الرث الملابس والبسيط في فهمه للحياة.
أخذت ظاهرة الصحوة زخماً إعلامياً، وتم صرف الميزانيات الضخمة لترويجها في العالم. وبعد غزو العراق للكويت بدأت أولى مراحل تغيير النظرة لتلك الشخصية، بعد أن أخذت أفكارها بعداً سياسياً، لكنها مع ذلك حافظت على نموذجها الحي في المجتمع، واستمرت مؤثرة في الأجيال الجديدة، لكن مرحلة نهايتها - إن صح التعبير - بدأت بالفعل بعد 11 سبتمبر 2001، وخلالها ظهرت تلك الشخصية لأول مرة كرمز للإرهاب والعدوانية، وتراجع موقع نموذجها الأشهر كثيراً، ولتبدأ مرحلة تتسم بالشك وعدم الطمأنينة إلى نموذج «الصحوي».
كان المجتمع في تلك المرحلة يمهد للخروج منها والدخول في مرحلة كانت تتسم بإعادة نموذج شخصية البدوي للحياة، ولتبدأ ظاهرة «التبدون»، أو العيش على الطريقة البدوية، وكان مهرجان مزايين الإبل الذي كانت بداياته في عام 2000 ميلادياً بمنزلة الإعلان الجديد للدخول في ظاهرة جديدة، وذلك عندما اتفق مجموعة من ملاك الإبل على إقامة تجمُّع بينهم للتنافس على جائزة أجمل الإبل، وكانت بمنزلة الاحتفال السنوي لظاهرة البداوة، ولنموذج البدوي، الذي يتكلم بلكنة بدوية، ويقرض الشعر النبطي، ويعشق الحياة في خيمة في الصحراء؛ لتنتشر المخيمات على الطريقة البدوية، وتنتشر ظاهرة تربية الإبل وشرب حليبها.
شارك الإعلام في تضخيم تلك الظاهرة، عندما تم إطلاق برنامج شاعر المليون الذي يقدم حلقات أسبوعية عن مسابقة للشعر النبطي، ورُصدت لها الجوائز المالية الضخمة، وجندت بعض الدول أجهزتها للاتصال من أجل أن ينال شاعرها الجائزة. وتابع البرنامج الملايين من المشاهدين، وأصبحت كلمة «جزلة» على كل لسان. وأعادت ظاهرة «التبدون» القبيلة إلى صدور المجالس، ووصل الفخر بالأصول البدوية إلى قيام مهرجانات خاصة بالقبائل، يتم خلالها الترويج للنعرات القبلية، واستعراض العوائل الحضرية التي تنتسب إلى القبيلة، وتم بالفعل دفع الملايين لتأصيل الانتساب إلى القبيلة الفلانية.
صاحبت مهرجانات الإبل كثيرٌ من المشاكل الأمنية، وراجت أخبار أن هناك من يستغلها لترويج المخدرات وغسيل الأموال، ولم تثبت تلك التهم، لكنها كانت بمنزلة بدء مرحلة التخلي عن تلك الشخصية. وبالفعل انحسرت تلك الظاهرة، وقلَّت شعبية مهرجان المزايين وشاعر المليون. وكان اكتشاف فيروس الكورونا في عام 2012 على الموعد لإعلان الخروج النهائي من ظواهر التبدون، وكان تأكيد ارتباط انتشار الفيروس في البلاد بالإبل بمنزلة الحلقة الأخيرة في تلك الظاهرة الغريبة.
قد أستطيع القول الآن إن شخصية « المتبدون»، الذي يلبس العقل المايل قليلاً، ويرتدي البشت «الوبر»، ويلوح في يده اليمنى بالمسباح، ويقرض الشعر البدوي، قد تلاشت كثيراً، لكنها لم تنتهِ مثلما لم تنتهِ شخصية الصحوي، لكنهما فقدا سحرهما وجاذبيتهما في المجتمع بعد انطلاق ظاهرة التواصل الاجتماعي، وخصوصاً موقع «تويتر»، الذي أصبح متوافراً باللغة العربية منذ مارس 2012، وتم تعريبه بـ»تغريدات»، وأصبح يقدم خدمة التدوين المصغر التي تسمح لمستخدميه بإرسال نصوص وصور وأفلام قصيرة عن حالتهم أو عن أحداث حياتهم، أو إبداء آرائهم بحد أقصى 140 حرفاً للرسالة الواحدة.
كانت ظاهرة «تويتر» انطلاقة لشخصية «الفرد» أو الفردانية، الذي يمثل قناعته الشخصية أو التوجُّه الخلقي الذي يشدد على فكرة الاستقلالية أو اعتماد الفرد على نفسه في اتخاذ قراراته. وكانت ظاهرة التغريد إعلاناً فردياً للخروج عن النمط الشمولي، سواء كان الصحوي والبدوي والقروي. لم يعد النموذج الجديد يشعر بالتبعية المطلقة إلى الثقافات المحلية المتعددة؛ فمختلف ثقافات العالم أصبحت في متناول يديه، وليس عليه إلا الإبحار في مختلف مشاربها.
لعل النموذج الأشهر لهذه الظاهرة أن تلاحظ تلك الفردية في اجتماعات الأسر والأصدقاء؛ فالشخص يكاد لا يرفع ناظريه عن الجهاز الصغير الذي يحمله في يده، وقليلاً ما يشارك في الأحاديث الجماعية. ولعل المثال الأخطر من نموذج الفردانية هو أن تعلم العائلة لأول مرة من الإعلام أن ابنها الشاب قد فجّر جسده الغض في مجمع سكاني أو مسجد لقتل أبرياء يختلفون معه في أمر ما..