كوثر الأربش
حياة الفرد منا قد لا تكون مُرضية، أو في الغالب هي كذلك. لأنها لا تتشكل من خياراتنا وحدنا، بل تتقاطع وخيارات الآخرين. الآخر الذي لا تتفق رؤاه معنا بالضرورة. وبهذا يكون لدينا خيارات محدودة، إما القبول أو التغيير أو الترك. الانسجام مع الواقع - وإن كان غير مُرضٍ - ليس دائماً يكون قراراً واعياً. بل غالبا يحدث نتيجة غياب الرؤية والمعنى الخاص للحياة. لأن تحديد الرؤية أحد أهم المنطلقات التي نحدد بها نقطة المسير، ووفقاً لها نحدد الأهداف والرسالة. لكن مع غياب خياراتك الواعية لن يكون البديل الأمثل سوى القبول بخيارات الآخرين. وإن كُنا نأتي للحياة بلا خيارٍ، إلا أنه لدينا الإمكانية كلها لأن نختار بعدئذ العيش كعبء أو كإضافة، كمستهلك أو منتج. ولكن حتى بعد إتمام الاختيار، لن يكون الطريق معبداً. أو كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (2) سورة العنكبوت. لابد من الفتنة، الاختبار. ولا اختبار أصعب من اجتياز الرغبات الذاتية، فيصبح الطريق للأهداف معبداً بالصراع بين رغبة العقل في الوصول المحض والعاطفة الميالة للهو. ولهذا عمد المتصوف لقهر رغبته ففقد الطريق. وعمد البوهيمي للانغماس في عاطفته وفقد الطريق أيضاً. قلة من أمسكوا العصا من المنتصف، وصنعوا توازناً ما بين رغبة العقل والعاطفة. وبدلاً من كسر أحد المجدافين، جدفوا بكليهما، بتناغم واعٍ. لأن التوازن لا يكون بقهر العاطفة إنما بتقنينها، واتخاذها مؤنة الطريق وزاده. وسبباً للصفاء الذهني والتبصرة. وهذا ما تنبهت له شريعة الله السمحة، فوفرت كل السبل التي تكفل توازن العقل والعاطفة. والملتزمون بها هم المستفيقون، لأن النوم ليس فقط تلك العملية البيولوجية المعروفة، بل من وقف في مكانه لا يروم تحركاً أو فراراً للأمام. الأمام فقط لمن نفض الكسل ورضي باستثمار عمره لما هو خير وأبقى! بالإصرار على التحرر من قيد التقليد والتكرار. بالهمّ السامي لأن يصبح كوننا أفضل وأجمل. أما من يصحو كل يوم وهو في النقطة ذاتها التي كان بها في الأمس، فهو لم يصحُ بعد. من أضاع ثانية من حياته في هوامش وسخف وهو راضٍ وقرير العين فهو نائم لم يصح بعد! من شاهد كل ما يحدث حولنا من دمار وأعين متربصة وتابع المضي في السفاسف فهو لم يصح بعد! الصحو هو العزيمة على صناعة مجتمع أفضل، واقع أفضل، وطن أفضل، بقلب مثقل بالحب وعقل متخفف من ثقل الكون والذل والرضى بالأقل. الفارق في صناعة التغيير ليس النظر لأهداف الآخرين، بل بالنظر للنقطة التي بلغناها، نقارنها بالأمس، فإذا تشابه المكان فنحن نيام لم نفق بعد! فلنفكر منذ اللحظة: كيف نفعّل أعمارنا؟
في الغثاء أم فيما ينفع؟ في غرفتك، مكتبك، الشارع، على طاولة الإفطار، في قروب واتساب أو حساب تويتر. وأنت تتواصل مع ذاتك أو مع العالم من حولك. فقط لتفكر: أين أنا؟ ماذا أريد؟ إن كنت لا تعرف نفسك، فأنت بحاجة الآن أن تعرفها. وإن كنت لا تعرف ما تريد، فأنت بحاجة الآن أن تعرف! ماذا سنقول لمن يأت بعدنا؟
كنا نثرثر ونأكل ونشرب وتحركنا عواطفنا وتركنا لكم هذه الأرض ملوثة من بعدنا؟ علينا التوقف برهة ونبصر حولنا من مشكلات تحيق بكوكبنا. نريد بصدق أن نرتب بعض الفوضى. نريد أن نزرع جنينة صغيرة وسط هذا الاستهلاك المجنون من حولنا. نريد مرة واحدة أن نفكر كيف ننتج لا أن نستهلك. نريد أن نلهم ولا نتبع. نريد أن نقول لا، لا لكل ما يلهينا عن مصيرنا. أن نكتشف إرادتنا الذاتية. حقاً، ماذا نريد؟ لا يمكننا إمضاء حياتنا في مطاردة الأهواء. ثمة ما هو حقيقي ويستحق أن يعاش.
هذه الكوكب الذي جئنا إليه وسنتركه لمن بعدنا تستحق أن نتساءل: ماذا خلفنا لهم!
علينا أن نخجل من القادمين. ماذا سيتبقى لهم؟ ماذا سنقول لهم؟ كنا نلهو قليلاً، وغرقنا في لهونا! ورغم مساعي الدول والحكومات العالمية والمحلية للحد من مشكلات البيئة والتعليم ونشر الوعي، وبالأخص ممكلتنا الحبيبة ومجهوداتها الضخمة في زيادة مستوى المعرفة والوعي في الحفاظ على البيئة ووضع خطط مستقبلية للأجيال القادمة على جميع الأصعدة إلا أننا - أعني العالم كله - ما زالنا نشتكي من مشكلات تحتاج لوعي الفرد لتتكاثق الجهود: التصحر، قلة المياه، الاحتباس الحراري، الجهل، تلوث البيئة وغيرها من المشكلات التي يعاني منها العالم.
هؤلاء المشغولون بهموم كهذه هم فقط من يستحقون الخلود.