كوثر الأربش
الكيل بمكيالين يعني سقوط أي خطاب، سواء خطاب اجتماعي أو سياسي أو ديني؛ لأن التناقض يعني إما محاولة خداع المتلقي أو حالة تشوش في فهم ما يحدث. الخطاب المتوازن هو الذي يوزع الرؤى والأحكام بطريقة عادلة مهما كانت الجهة، ولا أصدق من خطاب ينقد نفسه ولا يسوغ الأخطاء إذا صدرت من جبهته. لأن الازدواجية أحد مظاهر اختلال عارم في مجمل الأحكام على الذات وعلى الآخر. فهناك أحكام مجردة لا يُختلف على صوابها أو بطلانها: كأن نقول حماية الوطن ضرورة والموت في سبيله شهادة وشرف. لكن تختل العبارة عند الازدواجيين فتصبح: حمايتي لوطني شرف وحمايتك لوطنك ضلال وعدوان! هنا بالتحديد يكمن سقوط الخطاب. وهذا ما أسقط السيد حسن نصر الله من احترام العقلاء!
في خطابه المرتبك الأخير حول أحداث المنطقة، وبالتحديد حول عاصفة الحزم والتعاون ضد تطاول ذراع إيران في الأراضي اليمنية. بعدما تمكنت من السيطرة على الحوثيين واقنعتهم بشرعية ولاية الفقيه، ثم وجهتهم لضرب أوطانهم. وهذا ليس بجديد على سياسة إيران، فهي لم تدس أنفها في إقليم إلا وقلبت أتباعها على أوطانهم. عن طريق خطاب مزدوج، مرتبك، خادع، مستلب للمنطق تماما. يعتمد خطاب ولي الفقيه السياسي على تخطيط ذهنية اتباعه اعتمادا على صيغ دينية تقنع أتباعه بأن ثمة جبهتين: جبهة الله (متمثلة في إيران الولي الفقيه ومن والاها) وجبهة الشيطان (متمثلة في أمريكا وإسرائيل والحكام العرب). وعندما تحقن عقول الاتباع بهذه القناعة يصبح ما بعدها أمراً هيّناً. فكل ما يصدر من جبهة الله هو صواب دونما نزاع. وكل ما يصدر من جبهة الشيطان فهو باطل أيضا دونما نزاع. بعد تلك القناعة التي تسحر بها عقول الأتباع والشعوب المتعطشة للاستقرار والعدالة والثراء، أولئك المتعطشين للأمان والرخاء (لأنها تختار ضحاياها بعناية، مثل غراب يحوم حول الدم!) تبحث عن الغرقى، والغريق يتعلق بقشة، وقشة إيران هي دولة (المهدي) التي تقول الروايات المزيفة إن اليمن أكبر حليف له، ومنها تخرج راية (هدى). بعد غرس مثل تلك القناعات، ومع اختيار الضحية الأكثر ضعفا وحاجة، تصبح محاولات التوضيح والتنوير أمراً مستغلقاً. فالتابع المسحور والمشحون بأغنيات النصر وخرافات البطولة وإنقاذ العالم لا يمكن إيقاظه. من منا يرفض أن يكون صديقا للحق في مواجهة أصدقاء الشيطان؟.
في خطاب حسن نصر الله الأخير خير مثال لما أعنيه. عندما تهجم على عاصفة الحزم ودعا العملية العسكرية التحالفية بالعدوان والتدخل. ويمكن لأي متابع عادي دونما توغل في التحليلات السياسية أن يدرك حجم التناقض والكيل بمكيالين في حديث السيد. فتنمو علامة استفهام بحجم السماء، ليس عن جرأته في تزييف الواقع السياسي، وليس في تزلف مصطلحات الخير والشر، الله والشيطان، بل في عقلية أتباعه الذي لا يتساءلون لوهلة عما كان يفعله بمدرعاته وأفراده ومقاتليه في الأراضي السورية إذاً؟!!
لا يتوقف تناقضه هنا وحسب، بل ويتعدى الأمر إلى نعت الشعب السعودي بالمظلوم فيما يبدي تحامله على النظام وأنه يستغل الدماء السعودية لأجل الوصول لأهدافه. متغافلا عن كل التفاصيل الأخرى، مجرِّدا الحقيقة من وجهها الواضح، في حق بلادنا بحماية أراضيها من أطماع التمدد الإيراني النهم لابتلاع المنطقة وما حولها! وتجاهل نداءات أهالي اليمن بالمساعدة من تلك الأطماع التي اندست في عقول الحوثيين وأسفرت عن حالة من الهياج المتوقع والانقلاب الذي يصيب أي متبع لإيران ضد وطنه! وهنا استفهام آخر: إذا كان الشعب السعودي مظلوما وحماية الحدود ونصرة الجار عدوانا وإثما، بالله ما الذي كان يفعله حزب الله في سوريا؟ ما الذي كانت تفعله امدادات إيران في سوريا والعراق؟.
لقد ضرب أقدامه برصاصة هذا الرجل! ونسي وهو يعبث بالمفردات (مقاومة، وعدوان) (التضحية بالدم، وحماية الأوطان) (الولوغ في دماء اليمنيين، نصرة الجار) أنه يخاطب العالم وأن ما يقوله لا يمر على العالم كما يمر على حفنة من الأتباع معزولين في بقاع نائية، ومختطفين حتى الثمالة بخرافات نصرالله وتهويمات الظهور!