كوثر الأربش
«أعتقد بأن النور هو المنتصر!»
هذا آخر ما قاله رست (المحقق، بطل مسلسل ترو ديتكتف/ True Detective) فيما جراحه لم تبرأ بعد. إنها تلك الحصيلة التي تحسب الخسارات والمكاسب بطريقتها الفريدة. الرجل مُسن، بلا عائلة، مدمن ومثخن بالجراح. وعلى الرغم من ذلك امتلك يقينه الخاص بأن النور منتصر. هذا هو معنى الحياة. ليست المظاهر النمطية. ولا سير الحياة الرتيب والمعتاد. قد تصل لنقطتك متأخراً ولا تمتلك ما يعده الآخرون ربحاً. لكنك تمتلك مكسبك الخاص، قيمة الحياة كما تراها أنت.
لكن لماذا تنكّر رست لجراحات الماضي، لمأساته الخاصة وأفنى عمره في حل قضية القاتل التسلسلي؟
أرى أنه توصل إلى نتيجة مهمة. أن بعض المآسي في حياتنا تعلقّنا. لا هي تنمحي من الذاكرة ولا هي تعود. الحل الوحيد للشفاء من هذه الحالة البينية هو القفز بإزائها لإيجاد حلول ممكنة لقضية أخرى نمتلك مفتاحها الخاص، وتستحق أن نفني أعمارنا من أجلها. أن ننقذ ما يمكننا إنقاذه وإن كان ما لا نملكه شخصياً. نضيء ما يمكننا إضاءته وإن كانت جهتنا الخاصة غارقة في الظلام.
17 عاماً قضاها في تتبع آثر قاتل تسلسلي في السهل الساحلي من جنوب لوزيانا، وبعد أن أتم المهمة التي حملها على عاتقه، رغم انتهاء مدة خدمته في الشرطة وتحوله لمتحرٍ خاص. وفي المشهد الأخير من المسلسل، وعلى السرير الأبيض، ما بين آثار الكدمات على وجهه، وطعنات القاتل في بطنه، كانت ذاكرته تلهث عدواً للوراء، حيثُ ابنته المتوفاة وزواجه العاثر. كما لو كان يسدد دين عجزه عن إنقاذ ابنته، وخسارته زوجته عن طريق فك عقدة ممكنة الحل. هناك مسلكان يمكن أن ينعطف إليها المنكوبون: إما أن يفقد إنسانيته، أو تتضاعف فيه الإنسانية حتى يكاد يتحول بكامله إلى همّ مُقدس. وهكذا كان صديقنا رِست (الذي أدى دوره الممثل ماثيو ماكونهي). لا أبالغ لو قلت أن المصائب حين تقع على أحدنا تفقده اتزانه، حِلمه، نظرته الإيجابية للحياة. هذه هي البشرية الطبيعية. من لا يحزن إثر المصائب بقدرٍ ما، مريض بقدرٍ ما! لكن ما تلبث النفس أن تسأم الظلام، تحن للشفاء. أحدنا يعتقد أن الظلال شفاء. كأن ينتقم، أو يغرق في الملذات، المعاصي، الجريمة. إن هؤلاء يبقون أنفسهم مرضى، حزانى ومثخنين بالماضي. آخرون يدركون أن الماضي لا يمكن محوه. لكن الغد يمكنه أن يُكتب بطريقة أفضل. يسعون بإرادتهم الحرة أن يعدلون مسار اعوجاج ما. رست كان كذلك. خبأ مأساته الخاصة في مكان قصيّ من قلبه وطفق يطارد قاتل تسلسي عذب ضحاياه بطريقة وحشية وبشعة. بعض ضحاياه طفلات ونساء!
الألم ظُلمة حالكة، زيت ثقيل يسد قنوات الحياة. يمكنه أن يبقى كذلك للأبد. ويمكنه أن يكون الزيت الذي يشعل القناديل. رست أشعل بآلامه قناديل كثيرة. كم طفلة كُتب لها النجاة من جديد؟ الحياة خيارات. ما هو خياري؟ وما هو خيارك؟