كوثر الأربش
يكفي لإنشاء مستعمرة من «الوهم» زراعة خلية «وهم» واحدة!
لأن الوهم ينقسم، ويغذي نفسه ليتكاثر، حتى يغدو التمييز بينه وبين الحقيقة ضرباً من المستحيل. إن قوة فكرة قد تفوق قوة سلاح، إذا ما تم طبعها في أرض بكر. أعني أن أحد أهم أسباب قوة الفكرة وثباتها أن تزرع في عقول الصغار، قبل أن تنضج أدواتهم المنطقية ومقدرتهم التحليلية. فليس بالضرورة أن تكون الفكرة منطقية وممكنة التحقق والإثبات ليصدّقها الأطفال، إنما وجود رابطة ثقة بين الطفل ومصدر الفكرة كفيل بترسيخها بما يجعلها منيعة عن المساءلة والاستيثاق. عندما نخبر طفلاً بأن «سوبر مان» حقيقي، وسيخرج من شقوق المكان، أو يهبط من السماء لنجدته، فإنه بدلاً من التحقق من ذلك، ومقارنة إمكانية وجوده بالإمكانات الفيزيائية والكيميائية والرياضية لهبوط شخص من السماء، يبحر خياله في إبداع فيلمه الخاص عن «سوبر مان»، واستكمال كل التفاصيل، ولربما شعر بالهواء يتحرك إثر طيرانه على مقربة!
وينمو الوهم كما تنمو شجرة البازلاء في القصص الخرافية نمواً هائلاً، يتاخم الغيوم، حتى يتحول - مع التقدم في العمر - من خيال جامح لإعاقة نفسية تفوق الإعاقة الجسمية؛ لأن المعاق جسمياً يبقى يحلم بالتفوق على قصوره أبداً، غير أن الواهمين يتشبثون بالوهم تشبث البردان بأطراف الدفء! ولأن الوهم يغدق على صاحبه بالحلول والأسباب والتفاسير الجاهزة واللاعقلانية فيعيق بذلك التفكير المنطقي والحلول العملية.
وليست الضلالات تلك إلا خاصية من خواص «حفظ» الوهم من التحلحل والنقض. فالوهم فوق أنه نقيض الحقيقة والإمكانية، أيضاً هو قادر على «التّدرُّع» والتمترس خلف عشرات التبريرات والاستدلالات التي يقوم بتشذيبها على مقاس الوهمش من أجل حمايته. فإذا كانت الفكرة الوهمية دينية - مثلاً - فإن عقول الواهمين سوف تجد ما يدعم وهمهم من النصوص المقدسة، يجيرونها لصالحه، ويلوون أعناقها بغرض إثباته!
وككل الأفكار الهشة، يفتقر الواهم دائماً لليقين؛ لذا يحتاج الواهمون دائماً لما يثبت يقينهم. ولا شيء أنفع من وجود مادي يمكن للحواس أن تدركه ليحصن أوهامهم من أي بادرة زعزعة أو شك. (الشك الذي هو أهم خطوات البحث عن الحقيقة، والذي سيعتبره الواهمون جُرماً لا بد أن يُغسل بالمزيد من الاستدلالات/ الضلالات). تمثال، صورة، قبر، أثر أو طقس.. بهذه الأوثان المادية يحصن الواهم أفكاره لئلا تتداعي. فلن نجد افتقاراً كافتقار الواهم لوجود «وثن» مادي يعيد ما يتهاوى من أفكار لرفوف التوقين الزائف؛ لأنهم سيكونون في حالة صراع دائم مع نقائض تلك الأفكار؛ لئلا تغزو فكرهم، وتنظف كل أردان الوهم.
الواهمون غاضبون دائماً، لا يصلون للسلام والطمأنينة مطلقاً؛ لهذا لن يكون مفاجئاً أن تجدهم منغمسين في القصص والحكايا (أغرب من قصص ألف ليلة وليلة). للواهمين والخرافات قصة عشق أبدية وحتمية؛ لأن القصة/ الخرافة هي أيضاً أحد الأكف التي تلتقط الأفكار كلما طالتها هزة!
وحين تحاور واهماً ستلمس ذاك الغضب الدفين بسرعة، وبلا عبء. يكفي أن تبثه شكوكاً فيما يفكر. وحده التشكيك سيحوله إلى مقاتل، وسيستخدم كل مباح وغير مباح (كالشتم والسب واللعن والتكفير)؛ لينتصر لأوهامه. فإشكالية الحوار والانتصار هي ما تشغله. بعكس المطمئنين؛ فإن مفهوم الحوار لديهم هو المشاركة وتلاقح الأفكار لا أكثر. لا يكترث المطمئن إن وافقته أو عارضته أو حتى شككت فيما يفكر. حالة السلام لديه تأخذ بيده للاحتمالات، ولا يضيره أن يتخلى عن فكرة اتضح له أنها لا تصمد أمام المنطق والعقل أو النص المقدس. إن إحدى المغامرات غير محسوبة النتائج أن تخبر واهماً أنه لا يرى الحقيقة، أن الضوء الأحمر في السماء - مثلاً - ليس بسبب تجلي أحد أوهامه، وأنه مجرد إضاءة كهربائية بشرية المصدر (كما حصل قبل بضعة أيام في فيديو انتشر في برامج وشبكات التواصل الاجتماعي، عن احمرار قبة المسجد النبوي حينما تجمهر بعض الواهمين حولها مدججين بتفسيرات خرافية، والحقيقة أن الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي بصدد إعادة التقاليد القديمة في المدينة المنورة، التي كان منها إضاءة أعلى منارة المسجد النبوي بضوء أحمر وقت الإفطار، ومن ثم إطفاؤها وقت الإمساك خلال شهر رمضان؛ وذلك لإعلام أهالي المدينة ببدء وانتهاء الصيام). على عكس الطبيعي، التفسيرات العلمية والواقعية ستغضب الواهم كثيراً. الغضب إحدى السمات المهمة في شخصية الواهم؛ لأن تهافت أوهامه يعني ضياعه التام ومجهولاً عارماً ينتظره على ضفة الحقيقة! ولأنه مفتقر دائماً لدليل مادي لتثبيت أوهامه. مفتقر دوماً وأبداً.
كل مريض يسعى للعلاج إلا الواهم، سيعض كل يد امتدت لمساعدته. كل مبادرة إنقاذ هي محاولة إغراق!
يا الله، كم معكوسة الأمور في أذهان الواهمين!