د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** وعينا معضلة «عربستان» منذ زمنٍ بعيد مستشهدين بوتريات الشاعر العروبيِّ «الشيعي» مظفر النواب الذي كنا نتهادى أشرطته وقتَ المنع الرقابيِّ الصارم، وكان إلقاؤه المختلفُ زاويةَ لفت النظر الأولى، كما رأينا في كلماته الصادمة زاويةً أخرى جعلتنا نتساءل عنه ونبحث عن نتاجه، ومثَّلت قضية الأحواز - التي كانت تسمى: الأهواز» - الزاوية الثالثة لمثلث الإبهارِ الشخصيّ والإبداعيّ والقوميّ الذي تواصل به جيلُنا مع هذا الشاعر المغترب المطلوب لأنظمة القمع حينها إذ أسلمته السافاك الفارسية إلى الأمن العراقي فحُكم عليه بالإعدام ثم بالسجن المؤبد فهرب وصدر عفوٌ عنه ثم غادر وطنه وظل تائهًا خارجه حتى وقتٍ قريبٍ حين عاد ولم يستقرَّ مثقلًا بأعباء المرض والشيخوخة والخيبات.
** التقى به صاحبُكم في دمشق وبيروت، وفاجأه هدوؤه وطيبتُه وصمته بصورةٍ لم تُوحِ بها قصائدُه، ووجده متفائلًا بعد زوال النظام العراقي السابق، وعجب؛ فلا يعقل أن يهلل «أبو عادل «- كما يلقب مع أنه لم يتزوج- للعَلَم الفارسيِّ والدبابة الأميركية، ولكن الاغتراب والتشرد والعمر هدَّأت لغته الثائرة وموقفه الرافض، ورجع إلى وطنه لكنه لم يُطل مكثًا، ولعله اكتشف أن التضامن «الأميركيَّ الفارسيَّ» قد أفرزا نظامًا هجينًا حاقدًا يعتمرُ الطائفيةَ والإقصاء والانتقام.
** لاشك أنه لم يرضّ أن يجد وطنه «بين أيدي الفرس والغلمان مجروحًا «، وأوجعه - كما قال في نصٍّ قديم: «قصدت المسجد الأمويَّ .. لم أعثر على أحدٍ من العربِ « وفجعه أن رأى: «جيشَ الروم في حلبِ»؛ فكذا عهدناه عربيًّا ولم نقبل لصورته الوضيئة أن تتشوه، ولم نشأْ للنضال أن تتبدل ملامحُه.
** لم يعنِنا أن نختلفَ مع « مظفر» في اتجاهاته العقَديةِ والإقليمية؛ فكذا نشأنا لنقرأَ ونفكر، ونُعجبَ ونُحاكمَ ، ونحكمَ فنعدل، وسهرنا مع «الوتريات الليلية» فألمنا: « قاومتُ الاستعمار فشردني وطني، غامت عيناي من التعذيبِ، تشقق لحمي تحت السوط ..»، واستعدنا سيرةَ «الشيخ خزعل» آخرِ أمراء «المُحمَّرة» ومأساةَ الاحتلال الفارسيِّ المماثل للاحتلال الصهيونيِّ ، وكلاهما ربيبُ الاستعمار البريطاني ؛ فبكينا - وما نزال - عربستان وفلسطين.
** آن للأمة أن تُسميَ الأشياء بأسمائها؛ فتصادقَ وتعاديَ وَفقًا لمصالحها، ومآسي الأعوام الأخيرةِ بدءًا من نكبة العراق مرورًا بجرائم النظام السوريِّ وعملائه، وعبورًا فوق أجواءِ ليبيا المدمرة، وتواكبًا مع العارِ الفارسيِّ في اليمن تجعلنا نمدُّ الأصابعَ نحو السقوطِ فنسميه سقوطًا وانحدارًا وتآمرًا وطائفيةً ومذهبيةً وصراعَ وجودٍ أكبر من كونه تنازعَ سلطات وخلاف حدود، مثلما آنَ أنْ نَعرف المواطنةَ الحقةَ ونُعرِّفها؛ فالولاءُ لا تصنعه الكلماتُ المزجاةُ ولا المواقفُ المُملاة ولا التساوقُ مع البيانات الانفعالية التي يصنعُها زمنٌ فيئدها زمن آخر.
** النورُ ظلامٌ منطفئ.