د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** يرى في نفسه ميلاً لقراءة الكتب «السِّيَر-غيرية» التي يؤلفها بعضٌ عن بعضٍ فنقرأُ الآخرين عبر رؤى سواهم متأثرةً -لا ريب- بقربهم منهم أو بعدهم عنهم وانتمائهم إلى المنظومة الفكرية التي تجمعُهم بهم أو تلك التي تُفرقهم؛ فيبدو التحيزُ «المعويُّ والضديُّ» والحياد وَفقًا لمنهجيةِ الباحثِ ومقدرته وتساميه فوقَ أهوائه الشخصيةِ والعَقَدية.
** تجيءُ هذه الكتبُ خاصةً بواحدٍ أو متعددةً لمجموع؛ لتبقى القراءات الثقافيةُ المضمنةُ فيها خاضعةً للتكوينِ الذاتيِّ للمؤلفِ، وهو حقٌ لا يقتسمه معه أحد، ولا مفرَّ من أن تختلفَ روايةُ كاتبٍ عن ثانٍ وثالثٍ حين يُحكِّمُ كلٌّ مقاييسَه الذاتية والموضوعية.
** كتب محمود أمين العالم (الإنسانُ موقف) فاختلف عن محمد طيفوري (أعلام في الذاكرة) وهما غيرُ رجاء النقاش في (عباقرة ومجانين) وهؤلاء مفترقون عن سواهم لتجيءَ الترجماتُ المجردةُ في كتب «الأَعلام» محايدةً والقراءاتُ التحليليةُ مركزةً على الأثر والمؤثر معًا، وربما التقطت مواقفَ خاصةً أو استندت على علاقةٍ مباشرةٍ فأضاءت نطاقاتٍ تغفل عنها كتبُ السِّيرِ العامة.
** يبقى احتياجُنا إلى أنماطِ الدراسات «السير- غيرية» وتنوعِها مُلحًا كي لا تمثِّل رؤيةً أُحاديةً مستلبةً للنسائم اللطيفة أو للرياح العاصفةِ، ومن الشائع في زمن الأدلجاتِ والتحزبات والثُّلليات أن نجد من يقدسُ شخصًا يدنسه آخر، وأن ينتفيّ الإنصافُ عند فئامٍ ويسود الانتقامُ عند سواهم، كما تُطل المدائحُ بجانب القدائح، ولشادٍ يتلمسُ السبلَ أن يتيهَ في حكمه مثلما يتيه الشيخ عن حكمته.
** الكتابُ أبقى؛ فيُفترضُ فيه أن يكون أنقى، ووسط الخلطِ المتجهِ نحو الشخوص أكثر من النصوص باتت كتابة السيرتين «الذاتية والغيرية» أكثرَ أهميةً من ذي قبل كي تتعادلَ الصورُ الموجبةُ والسلبية، وحين ترافقها الحقائق الموشاةُ بالوثائق فقد تقطعُ الطريقَ على المتكهفين بإقليمياتهم وانتماءاتهم وأهوائهم التي تجعلهم يميلون كلَّ الميل كيفما يشاؤون أو يُشاءُ لهم.
** ربما كانت الأجيالُ الأقدمُ أكثرَ حظًّا؛ فلم تخرج بينهم «المافيا الثقافية» التي تحشدُ الأتباع وتُهدِّد المناوئين، وربما وظف الأولون سلطتهم الرقابيةَ في المنعِ دون القمع؛ فقرأنا التياراتِ الفكريةَ بحيدةٍ معقولةٍ لم تخلُ من توجيهٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ، وهو -بالرغم من وصايته- أقلُّ سوءًا من «المكارثية» التي تكتبُ وتُحدِّثُ وتخطُب بالعصا ولا تتورعُ عن الإقصاءِ والإيذاء.
** هنا تجيء قيمة كتابة السيرة «الغيرية» المتجردة الرافضةِ للإملاءات الإعلاميَّة والمذهبيةِ والإقليميةِ ونحوها؛ فمن كتب عن «صدام حسين» -مثلا- إبان سطوته وتحت سلطته لن يكون كمن يكتبُ نائيًا عنه بشخصهِ وكذا نَصِّه، وقد يسكنه الخوف ويتلبسه الحيف إذا كتب تحت عَلَم الاستعمار الفارسيِّ الحاليِّ للعراق، وهذا أُنموذجٌ على بؤس التلقي حين تتعاظم المؤثراتُ السياسيةُ والآيديولوجيةُ فتُلجم أقلامًا وأفواهًا وتفتحُ سواها، ويصير المتلقي منتهبًا لمحاكماتٍ جائرةٍ كمحكمة المهداوي والمالكي ومن بينهما ومن بعدهما في عالمٍ تصنعه القوةُ المتبدلة.
** الحقيقةُ تتوارى ولا تُوارى.