د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
رأيت خلال كل الحقب الزمنية التي عاصرتها ووعيتها - منذ خمسينيات القرن الميلادي الماضي- أن اليمن وأهل اليمن كانت تجمعهم بالمجتمع السعودي روابط الأخوة والألفة، ولم نكن نشعر بأنهم غرباء، على الرغم من بعض الاختلاف في الملبس واللهجة -ومع بعضهم - في المذهب. طبيعيٌّ أن يكون الأمر كذلك، فنحن نبتنا معهم من بذرة عربية واحدة. كان الامتزاج الثقافي هو الظاهرة المسيطرة على العلاقات بين الشعبين السعودي واليمني - أو على الأصح بين سكان الجزيرة العربية في كل دولها. ربما يمكن القول بدون مبالغة أن اليمن كانت بمثابة عضوٍ من أعضاء جسم الجزيرة العربية، ما يصيبه أو يفسده إنما يصيب الجسم كلّه ويفسد عليه حياته، ولا يملك الجسم حينئذٍ إلا أن ينتفض بكل ما فيه من قدرة لمقاومة هذا الخطر. ليس هناك إذن ما يستدعي الاستغراب من رد الفعل الحازم القويّ الذي استجابت به دول التحالف العشر بقيادة المملكة العربية السعودية لطلب حكومة اليمن الشرعية بمساعدتها في مواجهة الخطر الداهم الذي أحدق باليمن وهدّد الأمن والاستقرار في بقيّة أجزاء الجزيرة العربية. الخطر لم يكن محصوراً في نزاع داخلي بين أطراف يمنية، بحيث يمكن احتواؤه بالمصالحة وتضامن مكوّنات الشعب اليمني، الذي أظهر بالفعل مثل هذا التضامن فرفض العنف وحمل السلاح في انتفاضة عام 2011 التي انتهت بالمصالحة. لكن الخطر كان أوسع مدى وأعظم استشراءً بانقلاب الحوثيين على السلطة الشرعية في صنعاء وغزوهم بسرعة وإرهاب محافظات اليمن في الشمال والغرب ومحاولتهم غزو عدن؛ وفى كل ذلك كان يساندهم ويشاركهم علي عبدالله صالح بدوافع انتهازية غير وطنية وغير أخلاقيه. مصدر الخطر في الواقع أن الحوثيين لا يسعون إلى أهداف تخدم اليمن، بل إلى تحقيق أهداف تسعى لها دولة إيران بشكل صريح. إذ لا يمكن افتراض الدافع الطائفي - أي استعادة حقوق مغتصبة للطائفة الزيدية مثلاً- فهذه الطائفة، مع أنها لا تشكّل إلا خمس سكان اليمن تقريباً، لم تكن تعانى من الإقصاء، ولم تشهد اليمن نزاعاً طائفياً من قبل - لا سيما أن المذهب الزيدي لا يفترق كثيراً عن المذهب السني ولا يصادمه في ثوابته. مجتمع اليمن مجتمع قبلي وليس طائفياً. ولكن إيران تريد له أن يكون كذلك، لأنه يناسب مبدأها الذي درجت عليه منذ نجاح الخميني في الإطاحة بنظام الشاه عام 1979. وهو ما تسميه (تصدير الثورة الإسلامية). وقد كان للشيعة في لبنان حضور سياسي ومشاركةفاعلة في إطار نظام للمحاصصة الطائفية ارتضاه الجميع، لكن ذلك لم يوافق طموح ملالي إيران في تصدير ثورتهم، فأسّسوا حزب الله في عام 1982، الذي وصفه (جعفري) قائد الحرس الثوري بأنه إحدى معجزات الثورة الإيرانية. ويبدو أن إيران تريد أن تجعل من حركة أنصار الله الحوثية معجزة أخرى. فقد تأسّست الحركة عام 1992 بعد عودة بدر الدين الحوثي من إقامة في (قم) بإيران دامت عشر سنوات، متأثراً بالمنهج الجعفري الإثني عشري الذي يتمذهب به حكام إيران، وهو الأقرب إلى الطريقة الجارودية في المذهب الشيعي التي يتبعها الحوثيون، بينما يتبع أغلب الزيديين في اليمن المذهب الهادوي الذي هو أقرب المذاهب الزيدية إلى السنة. وإذ وجد الحوثيون أنهم أقلية في مذهبهم لجؤوا لتنظيم أنفسهم حركياً تحت مسميات متغيرة، إلى أن استقروا على اسم (حركة أنصار الله)، وابتعثوا الأفراد إلى إيران للدراسة والتدريب. وبالنسبة لإيران فقد كان هذا التطور مربط الفرس. فهناك الارتباط المذهبي وحاجة الحوثيين إلى التدريب واكتساب الخبرة في التنظيم وحاجتهم لتسليح أنفسهم والتدريب على استعمال السلاح، وربما تمويل بعض نشاطاتهم. تلبية هذه الحاجات تكفى لجعل إيران صاحبة الكلمة العليا والنفوذ، ولو تمكّن الحوثيون من انتزاع الحكم في اليمن، فإنهم بذلك يحققون الهدف الذي تسعى إيران إلى تحقيقه وهو توسيع هيمنتها على منطقة الشرق العربي وبسط نفوذها على بلدانه ليصبح جزءاً من إمبراطورية إيرانية واسعة (أم هي فارسية؟). إن تصدير ما يغلّف بمسمى (الثورة الإسلامية) يقصد به تصدير النفوذ والهيمنة، أما الوكلاء فهم من أمثال حسن نصرالله وعبدالملك الحوثي. ولا يتمّ هذا خفية. فكما أسمعنا من قبل مستشار رئيس الجمهورية الإيرانية (علي يونسي) فإن بغداد أصبحت عاصمة الإمبراطورية الإيرانية، ومستشار الرئيس الأسبق (محمد صادق) أن إيران بوجودها في أربع عواصم عربية أصبحت ترسم خريطة المنطقة والمسيطرة على البحر الأحمر (أو الأبيض). أما الرئيس التركي فقد كان صريحاً حين اتهم إيران بأنها تسعى للهيمنة - قال ذلك وهو يعدّ العدّة لزيارة إيران. (عاصفة الحزم) ليست إذن تدخلاً في شأن يمني داخلي، ولا دخولاً في حرب مع إيران، بل هي عملية استباقية لمنع ما يترتب على انقلاب الحوثيين ومناصرهم الانتهازي علي صالح على الحكومة الشرعية من ترسيخ للنفوذ الإيراني في جنوب الجزيرة العربية وما يعقبه من زعزعة لأمن واستقراردولها -كما هو الحال الآن في لبنان وسوريا والعراق- وإضعافها لتكون لقمة سائغة بين فكّي كماشة (الإمبراطورية الإيرانية أو الفارسية). نعم، قد ينفخ الإيرانيون أو وكلاؤهم في الصراع الدائر الآن نَفَساً طائفياً لتبرير عدوانهم وشحن الكراهية في النفوس وتغطيةً لأهدافهم الحقيقية، لكن هذا الصراع في الواقع ليس حرباً طائفية تدور رحاها بين السنة والشيعة -كما يصرخ بذلك دعاة الفتنة من المتطرفين- ويجب أن لا ننساق وراء هذا الادعاء، بل نرفضه، لأن تصديقه هو الذي يشعل الحرب فعلاً ويديم أمد الصراع. ولعل الشعب الإيراني بمختلف طوائفه يدرك أن حلم (أو وهم) إنشاء قوة إمبراطورية قد أضاع على إيران الغنية بالبترول والموارد الطبيعية والقوى البشرية فرصة النهوض والنموّ والتمتع بالأمان والرخاء والتقدم، فتصبح إيران دولة قوية دونما حاجة إلى استعباد وإفقار شعبها واستغفال شعوب أخرى بكذبة الحماية الطائفية - وكل ذلك من أجل إعادة عرش كسرى.