د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
الجزيرة العربية منطقة متلاحمة توحدها وتوحد أهلها اللغة والثقافة والتاريخ والدين والجغرافيا، لذلك هي كلٌّ واحد يتدفق التواصل بين أجزائها التي تتمثل في دولها، فيتأثّر كل جزءٍ منها بالآخر، ويعتبر مجلس التعاون الخليجي (واليمن عضو في بعض مؤسساته)
.. هو الوجه السياسي الذي يمثل هذا الواقع. لا غرابة إذن أن تكون قضية الأمن قاسماً مشتركاً بين دول الجزيرة العربية - أي بين دول مجلس التعاون الخليجي واليمن، ومن ثَمّ فإن استقرار الوضع الأمني في اليمن مسألة ذات أولوية حيوية بالنسبة لدول المجلس. ولذلك سارع المجلس منذ بداية الانتفاضة الشعبية في عام 2011 ضد نظام حكم (علي صالح) بالتوسط بين فرقاء النزاع للمصالحة بينهم من خلال( المبادرة الخليجية) التي رضي الجميع بالاتفاق عليها باعتبارها أفضل ما أمكن التوصل إليه في سبيل إنهاء النزاع وضمان الأمن. مما ساعد على إنجاح المصالحة وتنفيذ بنودها أن أطراف النزاع - على الرغم من كونهم على درجة متقاربة من القوة ومحتفظين بالولاءات القديمة - كانوا يعيشون في جو المنافسة على إظهار الولاء الوطني ورغبة القبائل في تجنب صراع دموي. الرئيس بالنيابة ثم المنتخب (عبد ربه هادي) وزع جهوده عندئذ في عدة اتجاهات ليكسب تعاون الجميع وليعزز سلطاته ؛ إلا أن هذا أضعفه وأوجد ثغرات استغلتها الأطراف التي لم تكن أصلاً تؤمن بأهداف المصالحة، وكان قبولهم بها ضرباً من الانتهازية والتربص من أجل تعزيز قدراتها. (الحراك الجنوبي) وجد في حالة الضعف والاختلاف فرصة لتنظيم صفوفه وزيادة شعبيته. أما علي صالح فقد استخدم ولاء قطاعات من الجيش وفلول نظامه لفرض نفوذه وعقد تحالفاً مصلحياً مع الحوثيين -الذين كان يحاربهم من قبل- لتقويض السلطة الشرعية. أما الحوثيون -الذين تعلم وتدرب بعضهم في إيران وأسّسوا مركزهم الحصين في صعده، وكانوا يتلقون السلاح سرّاً عن طريق البحر من إيران- فقد بدأوا من صعده بإضعاف خصومهم السلفيين في البلدة المجاورة، ثم توسّعوا مستفيدين من تخاذل قيادات الجيش الموالية لعلي صالح حتى اكتسحوا معظم المحافظات الشمالية والغربية واستولوا على صنعاء، وأطاحوا بالرئيس المنتخب وحكومته، والآن يتجهزون لغزو المحافظات الجنوبية، ليُنهوا شرعية الرئيس -الذي فرّ إلى عدن- وما بقي من نفوذه. هي إذن حرب من أجل انتزاع الحكم على كامل اليمن، وقد تمدّدوا بسرعة وسهولة لأن الظروف كانت في صالحهم : هم مدججون بأسلحة ثقيلة زودتهم -وتزودهم- بها إيران، أو استولوا عليها من قواعد عسكرية تخلّت عنها قوات علي صالح، والحكومة المركزية وأجهزة الدولة منهارة، ودعم انتهازي قوي من صالح والموالين له. ومع رسوخ الولاء المذهبي والسياسي لحكم الملالي في إيران، لا يجد المء لما يحدث الآن في اليمن وصفاً غير الطائفية المؤدلجة - على النحو الذي حدث في لبنان. فقد أسّست إيران حزب الله في أوائل الثمانينيات في لبنان. وبعد مصالحة اتفاق الطائف المبرم عام 1989 قويت شوكة الحزب تحت حماية القوات السورية التي كانت تقوم بدور القوة العربية الضامنة لتنفيذ الاتفاق، ولكن إيران قامت بتمويل وتسليح وتدريب كوادر الحزب بعد أن استعادت قوتها عسكرياً واقتصادياً. وبعد مقتل الحريري عام 2005 تغيّرت موازين القوى؛ فحزب الله هو التنظيم الأقوى، ولكنه يحتاج للدعم الشعبي، فاستثار إسرائيل لحرب عام2006 التي صنعت منه ما كان يريده: أن يصبح رمز الصمود والمقاومة، ولذلك لم يجد قادة الحزب حرجاً في احتلال بيروت وتعطيل أعمال الحكومة وتحييد الجيش عام 2008. والآن يساند هذا الحزب -مع ميليشيات أخرى طائفية ودعم من الحرس الثوري- نظام بشار الأسد في تدمير سوريا وقتل شعبها. والقويّ يجد دائماً من يسعى للتحالف معه لكي يحقق أغراضه وينال من خصومه. فقد تحالف معه ميشيل عون الطامع في منصب رئيس الجمهورية، وأفشل من أجل ذلك عملية الانتخاب عدة مرات. ويشبه ذلك قيام علي صالح (الطامع) بالتحالف مع حزب أنصار الله الحوثي (القويّ). حتى ظهور عبد الملك الحوثي على شاشة التلفزيون وأسلوب خطبه يذكّر المشاهد بحسن نصر الله وخطبه! يبدو الأمر كما لو كان تكراراً لسيناريو مسرحية سابقة. لكن أحداث اليمن ليست مسرحية، بل هي جزءٌ من واقع مأساوي حاك نسيجه حكام إيران لأهداف إستراتيجية لا علاقة لها بالإسلام، لأنها تضعفه وتفرق أهله وتشوّه عقيدته، بل هي أحلام الشوفينيين في إيران بإحياء الإمبراطورية الفارسية على أنقاض هذا الواقع المأساوي تحت غطاء طائفي يوهمون به الشيعة أنه انتصارٌ لهم . لا يترك لنا قادة الحكم في إيران أيّ خيار لتفسير آخر. . فهذا قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري يقول: (إن حزب الله معجزة من معجزات الثورة الإسلامية). وهذا علي يونسي مستشار رئيس الجمهورية الإيرانية يصرح بأن بغداد أصبحت عاصمة الإمبراطورية الإيرانية (وقد تراجع عن تصريحه فيما بعد!). أما مستشار رئيس الجمهورية الأسبق، وهو صادق الحسيني فيقول: إن طهران ودمشق وصنعاء والضاحية الجنوبية أصبحوا هم من يشكّل خريطة المنطقة وهم سلاطين البحر الأبيض المتوسط! أمام هذا الواقع الذي تريد أن تشكّله إيران على هواها تصبح قضية الأمن في اليمن ليست قضية محصورة داخل حدود، يمكن مالجتها بالوساطات والمصالحات كما في السابق، بل قضية حيوية حسّاسة تمسّ أمن الجزيرة العربية بأكملها. وفي اجتماع قادة دول مجلس التعاون في الرياض مؤخراً والدعوة لعقد حوار بين الأطراف اليمنية في الدوحة والرياض إشارة قوية لضرورة إنهاء التمرّد الحوثي وإعادة الوضع إلى ما كان عليه وفق المبادرة الخليجية. وقد يتمّ التوصل إلى اتفاق يتضمّن إجراءات عملية تضمن تطبيقه ومدعومة بقوة إشراف دولية تتدخل لمنع الإخلال بالاتفاق. وإلى أن يتمّ ذلك فإن التعجيل بدعم الحكومة الشرعية خليجياً وعربياً ودولياً بكل الوسائل التي تمكّنها من الصمود وممارسة سلطاتها وحقها القانوني في طلب الدعم اللازم لتحجيم عدوانية المتمردين؛ وهو نفس الحق الذي استخدمته حكومة العراق في طلب دعم التحالف الدولي لمكافحة إرهاب داعش، فلا فرق بين إرهاب متطرفي السنة وإرهاب متطرفي الشيعة. دول مجلس التعاون واليمن لا يمكن أن تسمح بنشوء فراغ يتسنّى من خلاله لإيران وضع جزيرة العرب بين فكّيْ كمّاشتها في الشمال والجنوب.