د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
كانت بادرة جميلة ومؤثرة تلك التي سجلها رئيس تحرير هذه الصحيفة الأستاذ خالد المالك في مقالتين نشرتهما (الجزيرة) في يومي 10و12-5-1436هـ. الاقتراحات والرؤى والأماني التي عبّر عنها قراء هذه الصحيفة اعتبرها رئيس التحرير بمثابة الأمانة
.. التي أودعها إياه هؤلاء القراء، فأراد أن يؤديها مزيّنة بأسلوبه الخاص ومرتبة في ثلاثة مسارات ورفعها عبْر هاتين المقالتين إلى مقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز-حفظه الله-. وأجد نفسي -كقارئ- مع أولئك الآلاف من القراء فيما تمنوه ورأوه من اقتراحات. ولكني ككاتب أودّ أن أنتقي واحداً منها لاعتقادي أنه يصلح كنموذج لما يمكن أن تسهم به تلك الاقتراحات في تطور هذا الوطن، والذي صاغه الأستاذ خالد المالك في إحدى مقالتيه بعبارة (... إنشاء مدينة للطاقة والصناعة تسمّى باسم الملك سلمان على غرار مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين...). أهمية هذا الاقتراح والتطور المنشود من ورائه وردت في سياق العبارة نفسها بشكل موجز وتكمن في أنها تهدف إلى تغطية السوق المحلية والتصدير للخارج، كما أنها ستكون مهيّأة لتوظيف عدد كبير من المواطنين. هذا الاقتراح وأهدافه ليست من نسج الخيال، بل هي مطلب حضاري واقعي لا تقصر إمكانيات المملكة ومواردها عنه، ولا يخرج مطلقاً عن إطار إستراتيجية وأهداف خطط التنمية التي تسعى لتحقيقها هذه الدولة وقيادتها الرشيدة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله-. وحيث إنها كذلك فهي جديرة بأن تأخذ مرتبة الأولوية. يؤكد ذلك المسوغات التالية:
أولاً: أنه يوجد نموذجان ناجحان لمثل هذه المدن (الصناعية / الاقتصادية/ التنموية) هما مدينتا الجبيل وينبع اللتان أشرفت على إنشاء وإدارة المرافق والخدمات بهما الهيئة الملكية للجبيل وينبع. وقد حازت الهيئة على مدى الأعوام الماضية تباعاً على عدد من الجوائز العالمية لما تميزت به مدينتا الجبيل وينبع في مجال التخطيط المدني أو حماية البيئة أو جاذبية الاستثمار. والنموذج الناجح جدير بأن يحتذى به. وربما تصبح مدينة الملك عبدالله الاقتصادية في رابغ نموذجاً ثالثاً.
ثانياً: أن الجبيل وينبع تشتركان في خاصيتين هما أنهما يقعان على شواطئ البحر (الخليج العربي في الشرق، والبحر الأحمر في الغرب)، وأنهما مراكز ثقل للصناعات البترو كيماوية. ولذلك تبدو المنطقة الصحراوية الواسعة المتوسطة بين شرق البلاد وغربها بواحاتها ورمالها وسهولها الفسيحة ومدنها وقراها المنتشرة في أرجائها هي المكان الصالح لاختيار موقع تنشأ فيه مدينة صناعية تحتضن صناعات الطاقة المتجددة والصناعات التحويلية الإستراتيجية التي يمكن تسويقها محلياً وخارجياً مثل السيارات والأجهزة الكهربائية والطبية وغيرها من الصناعات الهندسية؛ لتكون هذه المدينة واحة صناعية كبرى في قلب الصحراء ومحوراً من محاور التنمية وفق الإستراتيجية العمرانية الوطنية التي اعتمدها مجلس الوزراء بقراره رقم (127) في 28-5-1421هـ.
ثالثاً: أن بناء نموذج رابع من المدن الصناعية الكبرى على غرار نموذج الجبيل بتخطيطه وبنيته التحتية ومساكنه ومرافقه وخدماته ومنشآته الصناعية سوف يكون جاذباً للسعوديين حين يجدون فيه ما يبحثون عنه من وظيفة ذات دخل شهري مجز وسكن مريح ومرافق صحية وتعليمية ميسّرة وجيدة، وبيئة منسقة ونظيفة وخدمات وافرة ووسائل ترفيه لائقة. ومثل هذه البيئة الجاذبة سوف تهدم الحواجز التي تصدّ السعوديين عن العمل في الصناعة، وتغرس فيهم ثقافة العمل، وسوف يطيب لهم فيها المقام لسنوات عديدة - وهذا أمر مهم في تحقيق الاستمرارية في مكان العمل، وضمان بقاء الخبرات والمعارف التقنية المتراكمة في موطنها وتناقلها تباعاً من جيل إلى جيل.
رابعاً: أن إنشاء مدينة صناعية متكاملة المرافق والخدمات والبنى التحتية وتضم صناعات إستراتيجية كالتي سبق ذكرها يهيّئ الأرضية والبيئة والإمكانات الجيدة لإنشاء المراكز والمعاهد التدريبية التي تؤهّل الشباب ميدانياً وفنياً للأعمال التقنية التي تتطلب مهارات عالية وتكون مصدراً لتزويد هذه الصناعات بقوة العمل الوطنية المؤهلة، بعد أن ألفت من خلال التأهيل والتدريب العملي في الوسط الصناعي بيئة العمل الذي ستنخرط فيه.
خامساً: أن الدولة أنشأت بالفعل هيئة المدن الصناعية التي تسعى حالياً لتوفير مدن متكاملة الخدمات من ناحية السكن والمدارس والمستشفيات لتوفير بيئة صناعية متكاملة الأطراف - كما ورد في تصريح معالي وزير التجارة والصناعة في أثناء عقد الدورة الرابعة لمنتدى الفرص الصناعية الذي نظمته الهيئة قبل بضعة أسابيع. ولا شك أن الدور الرائع لهذه الهيئة المتمثل في تطوير العديد من المدن والمناطق الصناعية في المملكة التي بلغت حتى الآن (34) مدينة صناعية يضطرها لتوزيع جهودها على القائم حالياً والمتوقع توفيره مستقبلاً. وحيث إن إنشاء مدينة صناعية كبرى يتطلب تركيز الجهود وتوفير الخبرة الإدارية والإمكانات الفنية العالية والإشراف المتفرغ، فإن الدولة ممثلة في هيئة المدن الصناعية يمكنها إسناد الإشراف على تنفيذ هذا المشروع إلى الهيئة الملكية للجبيل وينبع، مع تخصيص ميزانية مستقلة للمشروع حتى لا يؤثر على الجهود الموجهة للمدن الصناعية الأخرى، وبرامج تشجيع الصناعات المتوسطة والصغيرة.
وأخيراً فإن هذا المقترح الرائد الذي رفعه رئيس التحرير مع مقترحات أخرى هامة باسم قراء (الجزيرة) إلى مقام خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- جدير بأن يأخذ الأولوية بين مشاريع التنمية، لأنه قابل للتطبيق ورافد قويّ لتطور هذا الوطن.