د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
أعجبتني هذه العبارة التي قالها فضيلة خطيب مسجد الجمعة بحيّ المحمدية الغربية فاخترتها عنواناً لهذا المقال، لأني وجدت أنها تستوعب دلالات عميقة يجدر بنا أن نتعرف علي كنهها، حتى ولوكان بعضها قد يشطّ عن قصد الخطيب الفاضل.
أول هذه الدلالات أن فضيلته خرج عن روتين المواضيع المعتادة في خطب الجمعة، فتناول موضوعاً لا يعيره الكثيرون منا ما يستحقه من اهتمام، ظانّين أنه من الثانويات في الدين، وأنه نصيحة للناس باللّين والتلطف في التعامل، وهي أمور تحكمها العلاقات بين الناس وطبيعة الأفراد، وليست - هكذا يظنّون - مما يجب اتباعه من تعاليم الشريعة. ولكن الخطيب -جزاه الله خيراً- أراد تذكير المصلّين بأن هذا من آداب الإسلام التي حضّ ديننا الحنيف في الكتاب والسنة على ممارستها، لأنها توثّق روابط الأخوّة والمعاشرة والسلم الاجتماعي. في هذه البيئة يشيع حب الخير والتعاون على البرّ، ويكون المجتمع قويّاً متماسكاً، وهو مطلب إسلامي، فوق كونه مطلباً إنسانياً.
وثاني هذه الدلالات أن العبارة في حد ذاتها تستثير جواباً ضمنيّاً لتساؤل يحوك في النفس، هو: إذا لم يكن الذوق الرفيع ضعفاً، فماذا يكون؟ إنه ليس ضعفاً، بل عنوان قوةٍ لأنه مظهرٌ حضاري - هذا هو الجواب. كل فرد منا لديه نصيب من الذوق بطبيعة الحال، ولكن الحديث هنا عن الذوق الرفيع - تلك الصفة التي تعكس القدرات الإيجابية الحسنة الراقية في شخصية الفرد، أي قدرته على أن يختار - سواءً بما جبل عليه من طبع، أو بما اكتسبه من معرفة - الأسلوب الأحسن في التعامل من بين عدة أنماط من أساليب التعامل المباشر مع الناس، والأشياء، وغير المباشر مما له مساس بالحياة الاجتماعية. وعلى سبيل المثال فإن حسن الاستخدام يظهر في مراعاة النظافة والترتيب عند استخدام أماكن الضيافة والتنزّه والعمل، وعدم الإزعاج بإيقاف السيارة على الرصيف أو بإيقافها معترضة طريق الخدمة أو بنطح السيارات المصطفّة أمام إشارة أو ممرّ ضيق من الجانب للدخول عنوةً في الصف، وتجنب إحداث الضجيج بلا موجب، وخلع الأحذية وركمها في مقدمة مدخل المسجد في طريق المصلين. كما أن من حسن المعاشرة المبادرة بالسلام، والمبادرة بالرغبة في المساعدة وبالشكر لأي خدمة بسيطة وبالاعتذارعند أيّ تجاوز بسيط والتلطف عند أيّ طلب: كلمات مثل (تفضل - شكراً - عفواً - من فضلك) أو ما يشابهها، يمكن التعوّد عليها منذ الصغر لتصبح ضمن القاموس اليومي. وفي الجانب المقابل فإن الذوق يتمثل في حسن الاستقبال ببذل البشاشة لمن يستعلم أو يطلب الخدمة أو الحجز أو التسجيل.. الخ. إن التجهّم في مثل هذه اللحظات يُفسّر من الغير على أنه قلّة ذوق أو ترفّع، ويبعث أحاسيس في النفس ذات تأثير سلبي على متلقّي الخدمة أو مقدمها. غنيٌّ عن القول أن قمّة الذوق تتمثّل في حسن الانضباط الذي يصدر عن وعي ومبادرة - دون قسر أو تخويف وإنذار - في الالتزام بالمواعيد والوعود وتعليمات الإجراءات النظامية ودوام العمل ودوام المدرسة...الخ. جميع هذه الأمثلة وغيرها من الصفات الحسنة تكتسب قوتها من كونها تعكس القدرة على اختيارالصحيح من السلوك دون إكراه، وعلى التحكم في الانفعال البدائي الذي قد يثيره تصرف غير لبق من طرف آخر، أو تعليمات وإجراءات قد لا تصادف هوىً في النفس (...والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس...).
وثالث الدلالات أن جميع تلك الصفات الإيجابية التي يتحلّى بها صاحب الذوق الرفيع ليست صفات وراثية تتحكم بها الجينات الخاصة بكل فرد، بل هي وسط مشاع يمكن أن ينتقل من فرد لآخر ومن جماعة لجماعة بالتعوّد والوعي والاستحسان والتناظر، مما يكوّن بيئة ينمو ويشيع فيها التسامح وقبول الآخر وتضاؤل التعصب واحترام القيمة الإنسانية للفرد- طفلاً أو شيخاً ورجلاً أو امرأة. وهذه صفات إيجابية تطبع المجتمع بأسره، وتجعل منه مجتمعاً غير منغلق ومنفتحاً على الأفكار والإبداعات الخلاقة والعمل المنتج، وليس رهينة لأحكام انبثقت من العادات ولم يقررها شرع ولا يقبلها عقل ولم تفرضها ضرورة إنسانية.
على أنه من الإجحاف ترقّب صفة الذوق الرفيع من الأفراد فقط، بل إنه مطلوب من المؤسسات والأجهزة الخدمية، التي قد تكون للأفراد قدوة إن أحسنت أحسنوا، أو أساءت أساءوا. فإنه لا يتفق مع الذوق مثلاً وضع صندوق الزبالة الكبير كيفما اتفق في الطريق فيعيق الرؤية أو إيقاف السيارة أو مرورها، وفوق ذلك هو مكشوف؛ ولا ترك المستنقعات المؤذية المتجمعة من مياه الصرف الخارجة من العمائر أو البيوت أو المطاعم والمحلات. وليس من الذوق إزعاج المشاة بوضع الأحجار الخرسانية المنتهية مهمتها على الرصيف، لتجبر الماشي على السير في الشارع في مواجهة السيارات القادمة؛ ولا ترك الأرصفة على ما هي عليه من الفوضوية في الشكل، ما بين منخفض ومرتفع ومتكسّر أو معيق لسير الماشي وصاحب الكرسي المتحرك أو عربة الطفل. ليس من الذوق كذلك رمي مقاول الإنشاء لأسياخ الحديد والتربة على جانب الشارع وترك المشاة يسيرون دون حماية بشيء يفصلهم عن متن الشارع، ولا ترك الحبل على الغارب للمقاولين ليرموا مخلفات أعمالهم الإنشائية على الأراضي البيضاء - حتى في داخل الأحياء السكنية.
بلا جدال يتمنى كل فرد منا وكل مؤسسة في بلادنا أن يدخل الذوق الرفيع (الخاص والعام) في قاموس قيمنا الاجتماعية، وأن يستعيب كل فرد منا وكل مسؤول بيننا أي إخلال بالقيم الذوقية. ليس الأمر - طبعاً - سهلا في التطبيق كما هو سهل في القول. لكنه يبدأ بأن يكون جزءاً من تربية الصغار والطلاب، وأن يكون موضوعاً يهتمّ بتوجيهه للكبار خطباء المساجد ووسائل الإعلام.