د. عبد الله المعيلي
للهذر صور عديدة، منها كثرة الكلام، الإسهاب في عرض أدق التفاصيل، تكرار الكلام وترديده، التكلم فيما لا ضرورة له، والتحدث بسرعة دون توقف في أمور لا لزوم لها، ويطلق على الهذر بالعامية (البربرة)، والشخص المبتلى بمثل هذه السمة شخص ممل، الكل يتجنب الحديث معه، والاتصال به، نظرا لما يسببه من إزعاج للمتلقي، وتضييع لوقته، وتدويخ لرأسه، ولهذا قيل تحذيراً وتنفيراً: (من كثر هذره، قل قدره)، أي من كثر كلامه إطالة أو ترديدا، قل قدره وتقديره عند الآخرين.
ولأهمية الإيجاز، واختصار الكلام، والدخول مباشرة في الموضوع دون الخوض في التفاصيل التي تصل الرسالة المقصودة من الكلام دون ذكرها، قيل ترغيبا وتحبيبا: (البلاغة في الإيجاز)، ويقصد به التعبير عن الأفكار والمعاني الواسعة بأقل عدد من الألفاظ، وذلك إما بحذف الكلمات والعبارات التي لا لزوم لها دون أن يختل المعنى، أو بتضمين العبارات القصيرة معاني كثيرة دون حذف، وعكس الإيجاز الإطناب، ويتمثل في أداء المعنى بأكثر من عبارة، وذلك بالزيادة في ذكر كلمات أو جمل لا لزوم لها، مجرد حشو كلام ورغبة في الإطالة، لذا قيل نصحاً: (خير الكلام ما قل ودل)، أي يا أيها المتحدث أوجز، ففي إيجازك دليل على بلاغتك وقدرتك على إيصال الفكرة دون أن يترتب على ذلك ملل السامع أو سأمه، واعلم أن خير الكلام في القليل منه الدال على المقصود به.
النساء معروفات مشهورات مجبولات على كثرة الكلام والإسهاب فيه، لدرجة أنك تعجب من أين لهن هذه القدرة العجيبة على توليد الكلام والأفكار والإسهاب فيها، فالفكرة البسيطة الواضحة، التي تعرض بأقل الكلمات ولا يستغرق طرحها أكثر من دقيقة، يستغرق طرحها عندهن بما لا يقل عن عشر دقائق، تقول لها: فهمت، الأمر واضح، وكلما أنصت لها كلما أمعنت في المزيد من الكلام والهذر، ظنا منها أنك مرتاح إلى سماع المزيد، ولهذا تزيد قرقرة وبربرة وثرثرة، بطرح المزيد والمزيد من الكلام وذكر التفاصيل وترديدها التي ليست بذات صلة، أو أنها تعد من نافلة القول الذي لا لزوم له، فقدرتهن على توالي الأفكار وترديد الكلام عجيبة غريبة.
فعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا في الجنة، أحاسنكم أخلاقا، وأبغضكم إلي الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، قيل يا رسول الله: قد عرفنا الثرثارين المتشدقين، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون).
ويشاطر بعض الرجال النساء في الثرثرة وكثرة الكلام والإطالة فيه، إذ المعروف المشهور عن الرجال اختصار الكلام والإقلال فيه، والدخول المباشر في الموضوع دون مقدمات أو إسهاب في ذكر التفاصيل، بينما المعروف المشهور عن النساء الإسهاب في الكلام والإطالة فيه، وهي سمة يبدو أنها فطرية فيهن، وبالتالي لا ضير من تفهمها وتقبلها وتحملها، لكن ما لا يمكن تفهمه وتقبله وتحمله أن يهذر الرجل ويتنقل من فكرة إلى أخرى، ومن هامش إلى آخر، ويدخل في تفاصيل أمر لا يستحق أكثر من كلمتين ورد غطاهما.
في البدء قد يترتب على الإطالة في الحديث تدخلاً مؤدباً من السامع يبدي فيه علامات التململ والتذمر من كثرة الكلام، ثم يلمح إلى عدم الرضا والانزعاج، ثم يشعر الهاذر أنه أطال، ومن ثم يلمح له لو سمحت اختصر، ثم يصرح كفى لقد فهمت، ما المطلوب؟ ما الذي تريد؟ هات ما عندك مباشرة و باختصار.
احذر أن تصل إلى درجة من الهذر يصفعك فيها السامع بالإعراض عن كلامك، أو عدم الإنصات لقولك، أو أن يقول لك: هات المختصر المفيد وكفى.