د. عبد الله المعيلي
من دون حرج أو تردد أو حياء، أو تأنيب ضمير أو قلق، بل بكل بجاحة وسعة عين، يرى أن الحلال ما حل بيده، واستقر في حساباته، وزاد من أرصدته، لذا تراه نهماً شرهاً في تتبع أي فرصة أو سانحة يجد فيها مدخلاً للمزيد من أخذ المال على الرغم من أنه يعلم علم اليقين أن المال الذي سوف يأخذه ليس له فيه أي وجه حق، أو مسوغ نظامي أو أخلاقي أو شرعي، المهم عنده تتبع الفرص التي يستزيد منها بالمال العام ضارباً عرض الحائط متجاوزاً كل القيم والنظم التي تحكم صرف المال العام في أوجه التنمية المخصص لها.
لقد غيبت شهوة أخذ المال بغير حق عن عقل الآخذ، قول الله تعالى (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأتي بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) آل عمران 161، من يأخذ شيئا من المال العام أو غيره بغير وجه حق نظامي، سوف يأتي بما أخذه حاملاً له يوم القيامة قل أم كثر ليفضح به في الموقف المشهود.
روى عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء، ينادي: يا محمد، يا محمد، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملا له رغاء، فيقول: يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا له حمحمة، ينادي، يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فشعا من أدم، ينادي: يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك).
هذه الحقيقة التي يقشعر لها البدن، ويفزع منها العقل، وتضطرب لها النفوس، تغيب تماماً عن المشهد، ويحضر بدلاً عنها شيطان رجيم يعمي البصر والبصيرة، يزين ويسهل سبل الهلاك والغواية التي تزيد من شهوة طلب المزيد والمزيد من المال الحرام، أمر تحار معه أرشد العقول وأعقلها، ولا تفهمه البتة، كيف يهنأ الغال؟ وكيف ينام؟ وهو يسكن بيتاً في غاية الفخامة، ويركب سيارة فارهة، ويؤكل أولاده وأهله ويكسوهم، من ذاك المال الحرام الذي استحوذ عليه تحت الطاولة بسلطة المنصب والتسويغ الخارج على أطر كل القيم والأخلاق والنظم.
تنشط شياطين غل المال عند إجراءات طرح المشاريع، وعمليات المنافسة والمناقصة، وعند إقفال أبواب الميزانية، في هذين المجالين ينشط هؤلاء فتجدهم يبحثون عن أي مسوغ يرونه مدخلاً مناسباً، وسبيلاً سهلاً، يمكنهم من نهب ما يستطيعون من المال، عجيبة حال هذا الصنف من البشر، كيف تطمئن قلوبهم، وترتاح نفوسهم وهم يعلمون علم اليقين أن المال الذي يسعون وراءه مال حرام، ليس لهم فيه أي وجه حق.
لا ريب أن نفس البشرية جبلت على حب المال حباً جماً، حيث يأتي في مقدمة أوجه محركات السلوك، المحفزة له، لكن وفق أصوله وسبله المعتبرة شرعاً، وهي كثيرة ولله الحمد، تغني عن مد اليد تحت الطاولة، أو الهمس في الغرف المغلقة، وغيرها من السبل التي حتماً تعد نهايتها مأساوية مخزية سواء في الدنيا أو في الآخرة.
(الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام، فمن تركها استبراء لدينه وعرضه فقد سلم، ومن واقع شيئا منها يوشك أن يواقع الحرام، كما أن من يرعى حول الحمى، أوشك ان يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، تحذير رائع عن الوقوع في المشتبهات، فما بال الذي يصر على الوقوع في الحرام البين كما الشمس في رابعة النهار.
اللهم لا تعمي البصائر والأبصار عن مقاربة الحرام، أو ما يفضي إليه أو يقرب منه، وأيقظ الضمائر والقلوب إلى مقاربة الحلال والاكتفاء بما أحل الله استبراء للدين والعرض، ففي ذلك السلامة والأمن والاطمئنان.