د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
عاش بعضُنا زمنَ المراسلات العتيقة؛ فكان الشيوخُ والعجائزُ يلجأون إلى من يكتبُ لهم «خطوطَهم» - كما أسموها- لتبثَّ مشاعرَ اللهفةِ لمغتربيهم إذ لا وسيط سواها، وفي الذاكرةِ ما اعتاد صاحبُكم تسطيره لجدته لأمه (نورة العبدالله الخراز) «خطًّا موجهًا إلى خالته وابنتها في جدة (حصة العبدالله المطلق) - عليهما رحمة الله - واستوقفه - عدا الأسلوبِ المنمَّط المحفوظ - ما كانت تطلبه منه بثقب الرسالة من أسفلها بالقلم عدةَ ثقوب تعبيرًا عن مشاعر القلب المكلوم، وما يزالُ في كبار السنِّ ممن تشقُّ عليهم القراءة مَن يوظفُ رموزَه الخاصة لمعرفةِ ما يَحتاجُ إليه.
- الثقوبُ رمزٌ أدى مهمته دون حاجةٍ إلى فيضِ مفرداتٍ لم يكن يتقنُها جيلُ الحبِّ والحدَبِ والمعاناة، وبدأ جيلُنا تاليًا وهو يستغني عن الرمز بالكلماتِ المعبرةِ فما أعوزَنا اللفظُ ولا خذلنا التعبير، وربما لجأنا إلى الشِّعر نلوذُ به ليحكيَ عنا شيئًا من الشوقِ الذي لا تعانقُه أساليبُنا.
- يبدو الجيلُ التقنيُّ اوفرَ أدواتٍ في هذا المسار؛ فالرموزُ بكل أشكالها متاحةٌ أمامهم؛ فقد تغني الوردةُ عن قصيدة، والدمعةُ عن بيان، والابتسامةُ عن امتنان، وغيرُها عن حكاياتٍ طويلةٍ تختصرها رسمةٌ تشتركُ في فهمها شعوب الأرض وتغني عن تعلم لغات العالم.
- الرمزُ هنا إشارةٌ معولمةٌ تصلُ المنفصل وتُجسِّرُ المسافات، وعُرفت قبائلُ بمعرفاتها الدلاليةِ والإبلُ بوسومِها المميزةِ ملكياتِها، وكلم زكريا - عليه السلامُ - الناس رمزًا، وحساب «الدرسعيِّ» أسلوبٌ رمزي، وكثير من الكتابات القديمة إشاراتٌ وصور، وكذا احتفت الأساطير بها وهو ما يتساوقُ مع مفاهيم علم الرموزِ كما أصّلَ له باحثوه استقاءً من إرثٍ تراكميٍّ عبر العصور.
- يبقى الرمزُ على المدى وسيطَ تفاهمٍ، وربما اتفقَ ثلةٌ متشاركةٌ على قواسمَ رمزيةٍ محددةٍ يُدارون بها معلوماتهم أو أحاديثَهم عن الآخرين، ووعينا في الخطابات الرسميةِ من يوجهُها بفواصلَ أو جملٍ لا يعيها إلا المخاطَبون بها، كما نعرفُ تفاوتَ مدلول بعضِ الإشارات بين الثقافات والسياسات؛ فربما صار لإشارةٍ معنىً إيجابيٌّ أو محايدٌ عند أقوام وضدُّ ذلك عند أقوام.
- ثمة لغاتٌ لا نُحسنها، وليس المقصودُ اللغاتِ المحكيةَ فقط بل لغاتِ العقل والروح والبدن كذلك، وهنا يجيءُ الرمزُ مسارَ إنقاذ؛ فقد نقدِّر شخصًا تحتويه ابتسامةٌ ونظرات، وفي المقابل لن يضطرَّنا الرمزُ إلى التسافه مع السفهاء فتفوق الإشاحةُ بالوجه والإيماءُ بالعينين على الردِّ عليه بمثل قالاته، وفي الصمتِ والتجاهل لغةٌ حازمةٌ لا يجيدُها الهاذرون والمأزومون.
- نحتاجُ إلى لغةٍ جديدةٍ تمزجُ الرمزَ بالمرموز، وتنأى عن الهمزِ والمهموز، وتفكرُ في ثراءِ اللغةِ ويبابِ اللغو، وحِلِّ الوردةِ وحُرمة الدم، وبوح الهوى وقبحِ الغِوى، وفي «التيفو» الذي امتدَّ في مدرجات التنافس الرياضيِّ رمزيةٌ مضيئة حين حملت لوحاتُه رسائلَ ناءت بحملِها ملحقاتٌ وأعمدةٌ وتحليلاتٌ ومجادلات.
- الصورةُ نص.