د. حمزة السالم
إذا زرت مدينة أمريكية فرأيت مالك المنزل أوالمتجر الأمريكي يُخفي سلك كهرباء ولا طفل لديه، أو رأيته وقد أرسل مندوباً ليزيل الثلج ويرش الملح في الجوار لكي لا يتزحلق عابر سبيل، فلا تعتقدن أن هذه المسؤولية الفردية هي ثقافة فطرية، بل سلوك نابع في الأصل من خوف العقوبات المالية العظيمة. فعابر السبيل المتضرر، ستهب له نخوة عنترية يتنافس المحامون وشركات المحاماة فيها لنصرة المسؤولية الفردية المضيعة بإهمال فرد، لا حباً للمتضرر ولا كرهاً للمتسبب، ولكن طمعاً في اقتسام غنيمة مُحتملة.. وهكذا هو الحال نفسه في السوق الأمريكية الصناعية والخدمية.
وبالرغم من الطبيعة المادية المحضة وصورته الاستغلالية، لهذا النظام الرقابي الصارم إلا أنه استطاع عموماً أن يخلق في المجتمع الأمريكي ثقافة طبيعية أصيلة بالشعور بالمسؤولية الفردية والاجتماعية والسوقية.
- هذا النظام الرقابي هو شكل من أشكال التخصيص. فالتخصيص هو تخفيف اعتماد المجتمع على الحكومة، بمشاركة المجتمع في حمل أعباء تعاملاته وحاجياته وذلك بالتخطيط والتفعيل لمجموعة إستراتيجيات تنطلق من فن استغلال الفطرة الإنسانية والقوانين السوقية والسنن الاجتماعية، لتوظيف الإمكانيات البشرية في المجتمع بما يتناسب مع موارده الاقتصادية، بشكل يحقق الإنتاجية الأمثل للمجتمع. وليست الخصخصة مجرد عملية تسليم موارد المجتمع للقطاع الخاص، تضيع فيها إمكانيات المجتمع البشرية، وتنتهب موارده وخيراته.
- وتعتبر الرقابة الطبية في أمريكا من الأمثلة الناجحة لخصخصة الرقابة الحكومية، والتي تبدو للنظرة القاصرة أنها خصخصة مرتفعة الكلفة، بينما حقيقة الأمر على عكس ذلك. ففاتورة العلاج الأمريكية هي الأغلى بلا منازع عالمياً على مستوى الفرد، والأضخم على الإطلاق. فهل كانت ضخامة التعويضات للأضرار الطبية، هي السبب في الكلفة الطبية، كما جادل الرئيس بوش قديماً في محاولة منه لوضع حد للتعويضات، مما سيؤدي إلى قتل نظام الرقابة الطبية.. ورمي بوش بتهمة ارتفاع كلفة الصحة على ضخامة التعويضات، إتهام غير صحيح من الناحية الحسابية المحضة. فمجموع التعويضات والكلفة الإدارية والقانونية لن تتعدى بوليصات التأمين على الأخطاء الطبية والتي تبلغ 55 ملياراً سنويّاً! وهذا يعني أنها أقل من اثنين بالمائة من الإنفاق الطبي الأمريكي السنوي المقارب لثلاثة ترليونات دولار. وهذه الكلفة ستكون موازية لكلفة أي جهاز رقابي فدرالي ليقوم بمهمة رقابة الأخطاء الطبية.
- وفي اعتقادي، أنه من الصواب القول بأن كلفة التأمين على الأخطاء الطبية هي كلفة تحقيق دافع الجودة، وأما ارتفاع الفاتورة الطبية فهي آتية من كلفة تحقيق الجودة ذاتها. فالجودة غالية، ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر. والجودة في ذاتها لها كلفة عالية، إلا أن عوائدها تعود أضعافاً مضاعفة على كلفتها. فإنفاق المجتمع لثلاثة ترلوينات على الصحة، جاء بسبب التافسية الإيجابية في المجال الصحي التي حققت هدف التخصيص في جانب التقدم والتطور في صناعة التكنولوجيا الطبية والعلوم والأدوية. والدافع التنافسي كان من أجل تحقيق جودة وكفاءة أعلى، تستطيع تحقيق أرباحاً أعلى لتغطية كلفة الأخطاء الطبية وتخفض أسباب وقوعها.
- وأما إذا نظرنا نظرة تحليلية عميقة لاتهام بوش للتعويضات بأنها السبب في الكلفة الطبية، فسنستطيع أن نقلب الاتهام فنثبت بأن هذه الكلفة قد جاءت بعوائد سنوية تجاوزت خمسة آلاف بالمئة.
- فهذه الإستراتيجية التخصيصية هي التي أوجدت صناعات جديدة متنوعة في التأمين وفي الطب وفي القضاء، والتي بدورها حققت هدف التخصيص في خلق ملايين من الوظائف الجديدة في المجتمع. كما أنها أدت لتحقيق الاقتصاد المعرفي بفتح آفاق فكر جديد أدى لنمو التطور في مستوى علوم الطب والقضاء والتأمين والقوانين الطبية ومعاييرها. وهذا كله أدى لزيادة الناتج المحلي زيادة دائمة والذي يشكل الإنتاج الطبي فيه 18% بالإضافة للمعامل التضاعفي الناتج عن هذه النسبة.
ومن أهم أسباب قوة هذه الإستراتيجية التخصيصية: أن الوسيلة المستخدمة وسيلة قضائية، وهي بنفسها كذلك أداة ضبط عملية التخصيص وتطبيقاته من الانحراف والفساد.
والمقصود: أن هذا النظام الرقابي الطبيعي هو شكل من أشكال التخصيص الناجح. فالموارد الاقتصادية في المجتمع، غنيمة شهية لا قوة لها ولا حول، فهي تحتاج لرعاية وحفظ وإدارة، والقطاع العام لن يكترث بشيء من ذلك، فليس له فيها من نصيب، والقطاع الخاص إن قدر عليها فلن يدعها تفلت من أنيابه، فلا تُترك الموارد في رعاية غير المُكترث، ولا يُسلم الذئب رعي الغنم.