حادث إرهابي شنيع هزّ فرنسا وذهب ضحيته 12 فرنسياً من محرري وكتّاب صحيفة تدعى «إيبدو تشارلي»، وهي صحيفة كارتونية ساخرة متخصصة في السخرية من الديانات والشخصيات العامة، وكانت غالباً تستهزئ بالمذهب الكاثوليكي قبل أن تركز سخريتها بشكل مستمر..
للإسلام والنبي محمد والمسلمين بشكل ليس عنصرياً فقط بل مقززاً أيضاً. وقد نشرت الصحيفة، حسب فرانس 24، رسوماً في 2006 فيها استهزاء بشع بالنبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام تضامناً مع صحيفة مماثلة في الدانمرك، واستنكر ذلك كثير من العقلاء من بينهم الرئيس السابق شيراك وحذروا أنّ ذلك يثير العنصرية والكراهية. ثم عاودت خطها السابق ونشرت في 2011 عدداً متخصصاً سمته «الشريعة إيبدو» فحرق على إثرها مقرها وبعثرت محتوياته فاستضافتها صحيفة الليبراسيون، وفي عام 2012 نشرت صوراً أخرى تلقى على إثرها رساموها تهديدات، ومنذ ذلك الوقت وهي تحت حراسة الشرطة الفرنسية التي خففت مؤخراً. وأصدرت مؤخراً غلافاً يظهر به كبير رساميها ستيفان تشاربونييه يقول «لا وجود لهجمات في فرنسا لحد الآن..» ثم صدر غلاف أخير يستهزئ بداعش ويظهر الرسول ينحر زعيمهم.
الحادث وقع في وضح النهار وبأسلوب عسكري متطور، واتهم به الإخوة كاوشي وهما شابان فرنسيان من جذور جزائرية يقال إن لهما نشاطات وصلات سابقة بمنظمات إرهابية وكانا تحت ملاحظة البوليس الفرنسي. وكان المهاجمان يرتديان زي الشرطة الفرنسة الخاصة ويخفيان وجهيهما بأقنعة القوات الخاصة، وتم تصوير الهجوم من كاميرا كانت تصور من مكان مميز أعلى المبنى، حيث قتل شرطي آخر صوّرته الكاميرا وهو يناديهما بكلمة «رئيس»! وقد ذكرت صحفية من إيبدو ذاتها نجت من الحادث أن عيني أحد المهاجمين كانتا جميلتين «زرقاوتين». وهرب المهاجمان بسيارة سوداء تركاها بعد حين وبها بطاقة الهوية الوطنية لأحد الأخوين كاوشي! استدل بها البوليس عليهما، ثم تمت ملاحقتهما وقتلهما في قرية شمال باريس تدعى «دامارتين إن قوال» ليسدل الستار على الحدث وتبدأ معه سلسله من التفاعلات الإعلامية الضخمة.
تعاطف ملايين الأوربيين والغربيين عموماً مع الصحيفة فيما اعتبروه اعتداءً فاحشاً على حرية التعبير ورفعوا شعاراً موحدًا بالفرنسية هو: je suis charlie ويعني بالعربية «أنا تشارلي». الإعلام الفرنسي، والإعلام الغربي عن بكرة أبيه بما في ذلك رؤساء الحكومات، أبدوا تفاعلاً غير مسبوق مع الحدث، تفاعلاً يذكر بأحداث 11 سبتمبر، واعتبروه هجوماً على القيم الغربية. وصرح الفرنسي الرئيس هولاند بأنّ فرنسا ضربت في الصميم وطالب الفرنسيين برص صفوهم خلف حكومته، ودعا لتظاهرة سيشارك هو فيها في اليوم التالي. ومُنحت الشرطة الفرنسية صلاحيات استثنائية للحفاظ على الأمن. أما ملايين المسلمين المغلوبين على أمرهم، والمهمشين أصلاً في فرنسا بالذات، وفي الغرب عموماً وجدوا أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه فرفع الكثير منهم أيضًا شعار «أنا تشارلي»!
والغريب أن بعض المثقفين العرب خارج أوربا أيضاً، وبعض الصحف العربية رفعوا الشعار ذاته «أنا تشارلي» ولم يفرقوا بين استنكار الحادث وبين التعاطف مع صحيفة لم يبد الكثير من الفرنسيين أنفسهم تعاطفاً معها. فكثير من الكتّاب منهم الفيلسوف إدقار موران، والكاتب الأمريكي في النيويورك تايمز ديفيد بروك، وأستاذ الفلسفة البريطاني «ويل سيلف» انتقدوا ممارسات الصحيفة، وكذلك تفسير الحكومة الفرنسية لمبدأ حرية التعبير بأنه مطلق ويسمح لصحيفة وضيعة كهذه في انتقاد معتقدات مقدسة لملايين المسلمين الأوربيين، ناهيك عن بقية المسلمين في العالم، في وقت يتصاعد فيه التجاذب الديني. وهؤلاء الكتّاب وغيرهم كتبوا وتكلموا تحت شعار «أنا لست إبدو» نائين بأنفسهم عنها. وحسب كلام «ويل سيلف» فكل مرة يحدث عمل إرهابي لا تعزز حرية التعبير ولا حقوق الإنسان، بل على العكس من ذلك تصادر حقوق وتقيّد حريات. وأضاف أن استهزاء إيبدو بالمسلمين يتماشى مع السياسات الغربية تجاههم ولذا سمح لها بالاستمرار.
موران وبروك وغيرهما انتقدوا ازدواجية المعايير الفرنسية عندما يتعلق الأمر بحرية الرأي، فهذه الحرية الواسعة التي سمحت لإيبدو أن تستهزئ بالمسلمين ومقدساتهم بشكل يتعارض مع قوانين منع التحريض على الكراهية، تنحسر بسرعة عندما يتعلق الأمر باليهود أو بقضية المحرقة، والجميع يعرف أن روجيه جارودي طرد من الجامعة وسجن لمجرد أنه كتب بحثاً علمياً يشكك في أعداد اليهود الذين قتلوا في المحرقة، وسُن قانون استحدث لهذا الغرض في 1990 يسمى قانون فابيوس جيسو! وهناك قصة صراع طويل معروف بين فكاهي مسرحي أسود يدعى «ديدوونييه بالا بالا»، ووزراء داخليه فرنسا المتعاقبين الذين حاولوا منعه من نقد اليهود في مسرحياته، وكسب قضية مشهورة ضد وزير داخلية فرنسا العام السابق في المحكمة، فاستصدر الوزير قراراً من المجلس التشريعي الأعلى يمنعه من مزاولة نشاطه. وهناك عشرات القصص الأخرى التي تتدخل فيها الحكومة الفرنسية للجم الأفواه عندما ترى ذلك مهماً، ولكنها في حاله تشارلي إيبدو وقفت موقف المتفرج !!
أما الأجواء العامة التي تم فيها التفجير فتشهد هبوطاً كبيراً في شعبية الرئيس هولاند، وتراجعاً اقتصادياً خطيراً، وهبوطاً كبيراً في قيمة اليورو. كما أن هناك تعاطفاً كبيراً مع المسلمين أبداه كثير من الكتّاب والصحفيين، وتصاعداً ملحوظاً في انتقاد إسرائيل، وامتعاضًا عاماً من السياسات الغربية عموماً وسير فرنسا بشكل أعمى في الفلك الأمريكي وخاصة في العراق، وهذا ما ترجمه رئيس وزراء فرنسا الأسبق دو فيلبان الذي حمّل أمريكا والغرب صراحة سبب تصاعد الإرهاب، متهماً الغرب بالفشل السياسي الذريع في الدول الإسلامية. فحسب دو فيلبان دخل الغرب دولاً إسلامية ودمّرها ودمّر حكوماتها ثم خرج منها وهي في حالة فوضى كبيرة. وأضاف، نحن لم نتعلم من درس أفغانستان، وبدلاً من أن نعالج مصادر الإرهاب أججناها بصب الوقود عليها. دمرنا مع أمريكا الحكومة العراقية ونصبت أمريكا المالكي وتركته يفتعل حرباً طائفية شيعية سنية أدت لخروج داعش، شجعنا المقاومة ضد الأسد ثم تخلينا عنها في منتصف الطريق وتركناها في حالة يائسة من الخلاص من الأسد ومعها فوضى لا نهاية لها. قصفنا ليبيا وتخلصنا من القذافي وتركنا ليبيا تحترق. كثير من السياسيين الفرنسيين يتفقون مع فيلبان.
أما الجالية المسلمة في فرنسا فهي أكثر الجاليات في العالم الغربي تهميشاً، ورغم تعاقب الأجيال المولودة في فرنسا لازال كثير من الفرنسيين يرونهم أغراباً ويتعاملون معهم على هذا الأساس. وهذا التهميش يزيدهم حساسية تجاه هويتها ومقدساتها، فهم يقطنون أحياء مزدحمة فقيرة في ضواحي المدن الكبرى تنقصها كثير من المرافق والخدمات، وكثير منهم لا يعرف العربية ويقرأ القرآن ربما مترجماً، وبعضهم لم يعرف الإسلام إلا حديثاً، فأحد منفذي جريمة الهجوم على المتجر اليهودي كان لصاً مشرداً اعتنق الإسلام في السجن قبل عام فقط. هذه الجالية تتعاطف كثيراً مع الفلسطينيين ومع الشعوب المسلمة الأخرى التي تتعرض للقصف اليومي.
وكلما وقع حادث إرهابي أو افتعل أمر من هذا القبيل، ردد القادة الغربيون عبارة واحدة متفق عليها في السرد الغربي وهي أن الهجوم هو على «قيمه ومبادئه»، قيم الحرية والإنسانية التي يختص بها ويحتكرها، اعتباراً أن المسلمين والشعوب الأخرى تجهل هذه القيم ولا تحترمها. لكن الكلام عن هذه القيم لا يرد في سياقات قتل إسرائيل الصحفيين في غزة، أو عندما تظهر فضائح كفضائح التعذيب في أبو غريب أو موت المدنيين في القصف الغربي العشوائي للمدن والمساجد وحفلات الأعراس. وقد أكد وزير الداخلية الفرنسي مثلاً على أن فرنسا عرفت هذه القيم منذ إعلان حقوق الإنسان في عام 1789م وليس الآن، ولكنه لم يذكر أن فرنسا قتلت مليون جزائري فيما بعد في حرب واحدة فقط. وعموماً يبدو أن للغرب مفهوماً خاصاً ليس بحقوق الإنسان بل بمفهوم الإنسان ذاته الذي تشمله هذه الحقوق.
لا شك أننا جميعاً ندين مذبحة تشارلي، وندين أي عمل مشابه، ولكني أرى نفسي غير متعاطف مع هذه الصحيفة التي أساءت لمقدساتي، فأنا لست شارلي، وصحافيو تشارلي مارسوا إرهاباً من نوع آخر، إرهاب أخلاقي، فالإرهاب لا يكون جسديًا فقط بل معنوي وروحي.