تتحول الأعراف والعادات في المجتمعات التي تؤكد بقوة على ضرورة الاتساق المجتمعي إلى ما يشبه الطقوس المقدسة بحيث يعد مجرد التفكير في مخالفتها عملاً محظوراً تلقائياً. كما قد تتحول بعض الطقوس الدينية إلى أشبه ما يكون بالعادات حيث يمارسها البعض بعيد عن الروحانية والتدبر التي فرضت من أجله،
وعندما يتزامن حدوث ذلك في حقبة معينة يختلط أمر المجتمع وعلى وجه الخصوص على الأجيال الناشئة بحيث لا تستطيع التفريق بينهما. كما أن هناك قضايا دينية تتأرجح بين الحلال والحرام، وهي القضايا الأخطر في المجتمع لأنها تسبب قلقاً اجتماعياً كبيراً، وقد يتحول هذا القلق إلى اختلاف وصراع حولها. والتردد في حسمها يسبب توتراً نفسياً يفوق حسمها بشكل أو بآخر، ولكن الحسم يتطلب المنطق والإقناع لا الترجيح والإرغام. والأصل في الشرع الإباحة إلا فيما نزل نص بتحريمه أو ثبت منه خطر داهم على الأمة.
وتتكرر على أسماعنا قضايا مختلفة في الشكل منتظمة النسق يحاط بها دائماً كثير من اللغط والجدل، وما أن تفتر واحدة حتى تبرز أخرى، تفتر القضايا ولا تفتر حماسة المتجادلين حولها. وهي في الغالب قضايا مختلف عليها في الشرع أو قضايا تتداخل فيها الأمور الشرعية مع الأعراف. وقد برزت مؤخراً قضية قديمة جديدة هي غطاء الوجه للمرأة، وجددها خروج شيخ وداعية ورئيس سابق لمركز لهيئة للأمر والمعروف على برنامج تلفزيوني بصحبة زوجته كاشفة الوجه مما اعتبره البعض مستنكراً وخاصة من شيخ اعتبره البعض شاهداً من أهلها. والرجل تعمد أن يعبر عن قناعة شخصية في موضوع مختلف فيه شرعياً ليؤكد التزامه بوجه نظره، ولكنه بدا مخالفاً لعرف اجتماعي قوي يعد غطاء وجه المرأة رمز لعفتها.
والغريب أن نسبة غير قليلة من المجتمع لا تمانع أن تكشف محارمها على من لا يمت لها بصلة قربى أو من ليس لها علاقة اجتماعية بها وتفعل ذلك عندما تسافر للخارج بعيدة عن عين المجتمع وأعرافه. ونحن هنا نعاكس منطق الأمم الأخرى أيضا فكلما بعدت المسافة الجغرافية وتباعدت الرابطة الاجتماعية والأسرية كلما تقاربت الألفة وأخذ الناس راحتهم في تصرفاتهم وتكشفوا على بعضهم لا العكس. ونحن أحيانا نألف الغريب وليس القريب مما يؤكد على أن قناعة تغطية وجه المرأة هي للعرف أقرب منها للفرض الديني.
والعيب والعرف يرتبطان ارتباطاً وثيقاً في سيكولجية المجتمعات، والأعراف من أحد أهم مصادر القوانين وبها تفسر بعض الأمور الشرعية. ويرى بعض علماء الاجتماع ارتباطاً طردياً قوياً بين تمكّن العرف في المجتمع ومبلغ العار الذي تصم به المجتمعات من يخالفه وعلى وجه الخصوص في المجتمعات التي ترتقي بالاتساق الاجتماعي لمستوى الفضيلة. والعار الاجتماعي من أكثر الأمور النفسية تدميراً للفرد والأسرة. وربما يكون في ذلك تفسيراً لازدواجية تغطية وجه المرأة لدينا بين الداخل والخارج.
منطقياً وموضوعياً وجه الإنسان هو ما يعكس انطباعاته الإنسانية للآخرين. وتغطيته تسلبه ذلك وتؤثر على قدرته على التفاعل الإيجابي مع الجنس الآخر. وإذا ما نظر أحدنا لبشر قد حجبت وجوههم فإنه لا يكاد يفرقهم عن بعضهم وسيراهم كبشر مسخ مستنسخين من بعضهم. ولو جرب بعض الرجال النقاب ولو لوهلة قصيرة لتكونت لديهم خبرة عملية وليست نظرية فقط عن وضع نقاب المرأة وتأثيره على تعاملها وتقييده لحريتها ولحركتها.
ومنطقياً ايضاً لا يوجد هناك رابط موضوعي وضروري بين غطاء المرأة لوجهها ومظاهر سلوكها الأخرى كحشمتها أو عفتها. وكانت النظرة للمرأة أكثر تسامحا في الأرياف منها اليوم في المدن حيث كانت المرأة تشارك الرجل في العمل، ولم يكن من العيب تحية المرأة للرجل أو كلامهما معا، وتغير الوضع مع انتقال كثير من الأسر من بيئات زراعية وقروية بسيطة إلى تجمعات مدنية كبيرة معقدة أشعرتها بعدم الأمان الاجتماعي فأصبحت أكثر تشدداً اجتماعياً وأسرياً. وهذا نستشفه أيضاً من مواقف المجتمع المتتابعة من التطورات الحديثة التي دخلت على حياتهم: كتعليم الفتاة، والتلفون المباشر، والتلفزيون، وأخيراً الإنترنت. فقد نظر لها على أنها كوارث أخلاقية محيقة بالمجتمع. و الملاحظ أن التوجس لم يكن حول هذه المستحدثات في ذاتها بل تمحور حول إمكانية تأثيرها على المرأة والخوف الحقيقي من أضعاف القيود عليها. فماذا لو تعلمت؛ أو استطاعت الكلام المباشر مع غريب؛ أو تمكنت من مشاهدة العالم الخارجي على التلفاز؛ أو تمكنت من التواصل الاجتماعي بلا قيود. ونحن من المجتمعات التي تتفرد بالفصل الاجتماعي حتى على مستوى الأهل والأقارب، فقد يكون لأحدنا صديق عمر، أخ لم تلده أمه كما نفاخر بأصدقائنا دائمًا، ولكنه لا يعرف عن زوجة صديقه إلا طبيخها!!
مقابل هذا الوضع لا يجوز لنا التساؤل عن وضع الرجل، لأن القيود الصارمة التي تفرض على المرأة وتعتبر غير معتادة أو غريبة بالنسبة للمجتمعات الأخرى، يقابلها قيود متحررة جداً للرجل. فللرجل حرية تراها الشعوب الأخرى حرية مفرطة وأمور أسرية غير مقبولة: يسافر متى أراد، يتكلم مع من أراد، يأخذ إجازة من مسئولياته الأسرية متى ما عن له ذلك. وقد يرى لنفسه حق التعدد والتذوق بلا سبب دون الاكتراث بالطرف الآخر، لأن الغزيزة هنا تنقلب إلى هوس والخوف من انفلات غريزة المرأة يقابله تضخيم كبير نفسي لغريزة الرجل.
لاشك أن كشف المرأة لوجهها موضوع خلاف، و يرتكز في مجمله على اجتهادات فردية وتبريرات ترتكز على التمسك بالفضيلة لا على جوهر الاختلاف. فالإسلام كرم الإنسان، وكرم ابن آدم ولم يخص الرجل فقط بالكرامة. وغطاء المرأة لوجهها لا يحد تفاعلها وعطائها فقط بل هو أمر مكلف اجتماعياً واقتصادياً ولا علاقة له بالعفة أو درء المفاسد كما يُبرر أحياناً. فالألبسة لا تدرء المفاسد، والعفة مصدرها تربوي أخلاقي، وترتبط بشكل كبير بالقدوة الأخلاقية في المجتمعات. وأكثر ما يدمر القدوة تناقض النصح الدعوي مع الممارسة الفعلية.
وهنا يبرز السؤال موضوع المقال: وهو كيف حولنا موضوع خلافي أخلاقي ذاتي إلى أمر موضوعي محسوم؟ والإجابة نجدها في تاريخ البشرية ذاتها، ففي كثير من المجتمعات، وفي حقب متباينة ومتباعدة من التاريخ يتم فرض أعراف اجتماعية على أنها عبادات إلهية، وبهذه الطريقة يتحول ما هو ذاتي مرحلي إلى موضوعي أبدي. فالأمور التي نهت عنها جميع الديانات هي الأمور التي تنتقص إنسانية الإنسان وتنتهك كرامته. وجميع الديانات تأمر بالالتزام بالعدالة، والأخلاق الحميدة، والعفة، والتواضع. وهي مصدر ما يسمى بالقانون الطبيعي. وعندما ترى الإرادة الإلهية أمر مهم لإقامة فضيلة ما بين العباد فإنها تؤكده في أكثر من موضع وبشكل لا يدع مجال للاختلاف. والتاريخ مليء بأمثلة فرضت فيها أعراف اجتماعية لا مبرر لها منطقياً على أنها إرادة إلهية منها العبودية، والاستئثار، والظلم في المجتمعات، فتحويل الذاتي لموضوعي يجبّ النقاش حوله ويوجبه تلقائياً على العباد. ونحن بلا شك أمة مسلمة يشكل ديننا الإسلامي أهم جوانب حياتنا، ولكننا أيضاً أمة تتطور وتتفاعل مع واقعها. وربما علينا أن نبتعد عن الجمود الذي كررنا، كما أسلفت، التمسك به وإنتاجه على أنه مسلمات دينية ثم تخلينا عنها فيما بعد بدعوى أنها أعراف أو اجتهادات مرحلية. وعلينا أن نفرق بين ما هي عادات وما هي عبادات، وأن نزرع في شبابنا وشاباتنا الأخلاق القويمة التي لا تحتاج لأخلاق نسيجية لتحرسها أو تردعها.