سُذّج من يعتقدون أن الاقتصاد والسياسية مستقلان عن بعضهما، وأسذج منهم من يعتقد أن الاقتصاد علم مثل العلوم الطبيعية لا يتأثر بعوامل عشوائية لا يمكن التنبؤ بها، ويعتقدون أن التنبؤ في مجال الاقتصاد يعتمد على منطق ضرورة تعلق النتائج بالمقدمات وليس على مفاهيم مرنة من منطق الاحتمالات.
وقبل أكثر من اسبوع تقريبا هوت أسعار النفط بشكل عمودي إلى أقل من 45% من اسعارها السابقة. ويذّكر هذا الهبوط بما يحدث عند المرور بأزمات اقتصادية كبرى كأزمة سوق الائتمان فيما سمي بأزمة الرهون العقارية إثر انهيار بنك ليمان بروذرز في سبتمبر 2008، مع فارق مهم وهو أن أسواق السلع عادة تهبط بوتيرة أبطأ من اسواق الائتمان فالأخيرة يمكن أن تهبط بشكل مفاجئ وعمودي لأن جزءا كبيرا منها افتراضي لا عيني.
هبوط النفط المفاجئ والكبير أثار تساؤلات كثيرة حول الأسباب، فعزاها بعض المحللين إلى أسباب سياسية، وعزاها آخرون لأسباب اقتصادية بحتة. الأولون اعتبروا الهبوط مفتعلا والأخيرون اعتبروه متوقعا. وهناك احتمال كبير أن يكون الهبوط متوقعا ولكن حجمه مفتعل. فالمنتجون الكبار خصوصا في الدول التي تعتمد اقتصادياتها بشكل كبير على تصدير النفط تنظر للأسعار على المدى المتوسط والبعيد وعينها على متغيرات الاقتصاد العالمي التي تؤثر على الطلب على النفط. وبعض المنتجين الصغار ومنهم دول لا تعتمد في دخلها بشكل كبير على النفط تراقب السوق الفورية للنفط. والتوقعات على الطلب على النفط هي محور سياسات الانفاق على الانتاج وتحديد توقعات حجمه.
لا شك أن السوق، كما صرح معالي المهندس علي النعيمي تأثر بعوامل كثيرة تضافرت لتسبب هبوط الأسواق: الطاقة البديلة، النفط الصخري، تباطؤ بعض الاقتصادات الهامة كألمانيا والصين، وظهور سوق سوداء للنفط في الشرق الأوسط لا يدخل انتاجها في التقديرات العالمية. ولكن بعض هذه العوامل عوامل وقتية، وهناك عوامل طويلة الأمد قد تكون أهم للمنتجين الكبار ومن أهمها استمرار تباطؤ الاقتصاد العالمي بما لا يسمح بنمو سوق النفط كما كان متوقعاً، لاسيما وأن خفض أسعار الفائدة لمستويات تاريخية قياسية، وضخ النقد مباشرة في الاقتصادات فيما سمي «بالتيسير الكمي» لم تفلحان في إحداث النمو المنشود حتى أن بعض الاقتصاديين طرح فكرة الاسقاط الكمي وهي منح المواطنين نقودا مباشرة ليصرفوها بهدف إعادة ثقة المستهلكين لأن فقدان الثقة في الاقتصاد والاحجام عن الانفاق تحول إلى ثقافة في هذه المجتمعات. أما الأمر الآخر فهو انعدام الثقة بشكل تام بين المنتجين انفسهم سواء من داخل الأوبك أو خارجها واحساس كثير من المنتجين أن خفضهم للإنتاج يعني انتقال حصصهم الانتاجية بغير رجعة إلى غيرهم ممن سيرفع انتاجه فيظل الفائض قائما وتتبدل المواقع فقط، ويخسر من يخفض انتاجه جزءا من حصته.
وركز بعض المحللين على النفط الصخري ورأى انه عامل مهم لهبوط النفط غير الصخري وهو كلام يلامس جزءا من الحقيقة فقط، فالنفط الصخري موجود من أعوام وإنتاجه تصاعد تدريجياً وبشكل متوقع مما لا يبرر هبوط الأسعار المفاجئ، كما لهذا النفط مزايا خاصة به سواء من حيث الانتاج أو حيث الاستعمال، فآبار النفط الصخري عمرها قصير نسبياً، 45 يوماً في المتوسط، وهو يتطلب الاستمرار في الحفر وهذا يتطلب كلفا لوجستية وقانونية مضافة. وهو نفط يفتقد لبعض الخصائص وكثير منه يصدر ليستورد مقابله نفط أحفوري يكون أكثر ملاءمة للاستخدامات المتعددة. ثم وهذا هو الأهم، أن الاستثمارات في هذا القطاع بمئات المليارات أكثرها على شكل قروض متوسطة وطويلة الأمد من بنوك أمريكية، وأمريكا لم تكن لتسمح بانخفاض الأسعار لما قد يفقد اقتصادها هذه الاستثمارات ومما قد يسبب انهيارات محتملة لبعض البنوك المقرضة، وهي إن لم تستطع الضغط على الدول المنتجة للحفاظ على الأسعار ربما تلجأ لفرض ضرائب على وارداتها من النفط الأحفوري ومشتقاته بما يحافظ على اسعار الانتاج الصخري في الداخل ويمنحه فرصة الاستمرار. فاحتمالية كون انخفاض الأسعار مؤامرة على النفط الصخري مستبعدة حتى ولو تأثر النفط الصخري من الانخفاض.
وأدخل البعض الحسابات السياسية في تفسير الانخفاض معتبرين الانخفاض مفتعلا من دول في الأوبك للتأثير على إيران وروسيا، وهذا لا يمكن أن يكون سببًا ولكنه يمكن أن يكون نتيجةً، إذ إن تأثير الانخفاض على سياسة هاتين الدولتين وتعريضهما لضغوط اقتصادية يبقى مجرد افتراض، واحتمالية ولو كانت مرجحة، ولا يمكن التنبوء بمدى التأثير، ولكن تأثير انخفاض الأسعار على اقتصاديات الدول المنتجة ذاتها وخاصة دول الخليج التي تعتمد على النفط في ما يزيد على 90% من دخلها القومي أمر مؤكد حتى ولو جادل البعض بأن هذه الدول يمكنها تحمل العجز. فسيناريو العجز الكبير بحد ذاته مبرر كبير لعدم الإقدام على هكذا سياسة.
وربما نجد حقيقة الأمر في أن المنقذ الوحيد لأسعار النفط على المدى الطويل، بسبب زيادة الانتاج وظهور بدائل أخرى، ولاحداث توازن مستدام بين العرض والطلب، هو ارتفاع الطلب على استهلاك النفط عالميا بنمو حقيقي في هذا الاقتصاد، بما يستهلك الفائض المعروض ويتيح المجال لاستهلاك ما يمكن أن يعرض مستقبلاً، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بنمو الاقتصاد العالمي بشكل قوي، ودخول مستهلكين جدد غير تقليديين تنمو اقتصاداتهم ويزيد استهلاكهم كدول أفريقيا وبعض دول آسيا وأمريكا الجنوبية. ولذا فلا يمكن أن تفرط أوبك في حصتها لأي منتج كان وليس بمقدورها إلا مسايرة الأسعار والأمل في انتعاش اقتصادي عالمي ليس في الأماكن المعتادة بل وفي اقتصاديات جديدة. وهنا يكون السعر المنخفض مقبولاً للجميع باستثناء ثلاث دول هما إيران، وروسيا، وفنزويلا التي قد يعتبر تأثرهما مهما كان مضراً من قبيل الآثار الجانبية لهبوط الأسعار. فأمريكا، وأوربا تريان إمكانية اسهام انخفاض أسعار الطاقة في دعم انفاق المواطنين، وخفض كلفة الانتاج الصناعي داعم كبير للتيسير الكمي، وهو أشبه بالإسقاط الكمي لأنه يزيد من الأموال التي يوفرها المواطنون مباشرة. والدول المنتجة الكبرى للنفط ترى أن مصلحتها العليا هي في نمو الاقتصاد العالمي وليس الحفاظ الوقتي على اسعار عالية للنفط تدفع للحد من استهلاكه وتلحق بالسوق النفطية أضراراً هيكلية مستقبلاً. فنظرية المؤامرة مستبعدة هنا ولكن هناك ما يمكن تسميته بنظرية المسايرة وهي توافق الأغلبية على مسايرة الانخفاض وقتيا لتحقيق مصالح مشتركة. فالانخفاض كان لعوامل السوق وما رافق ذلك من زيادة في الانتاج، وكذلك من تصريحات للمسئولين ترجح أن الانخفاض الإضافي كان باعتماد سياسة غض النظر عن فائض الانتاج الضخم. وكما يقال على الطرف المتضرر أن يتخذ ما يراه مناسبا. والمتوقع أن نشاهد الأسعار على المدى المتوسط تستقر حول السعر المقبول والمجزي للمنتجين سواء كانوا صخريين أو إحفوريين، لأن منتجي النفط الصخري لم ينتجوه لمصلحة الحكومة الأمريكية بل بهدف الربح، وربما يدور سعر النفط في فلك السبعين دولاراً. هذا إذا ما لم يحدث ما لا يمكن توقعه كانهيار في بعض الاقتصاديات على غرار اليونان والبرتغال، أو أن يعصف التضخم، او الاضطرابات بالاقتصاد الأضخم في العالم الاقتصاد الصيني.
وفي الختام لا أعتقد أن المملكة سعيدة بهبوط أسعار النفط ولا بالسحب من احتياطاتها النقدية لأنها تسعى دائماً لزيادتها لا خفضها، لكنها في موقع أفضل من دول أخرى منتجة للنفط للتعامل مع الانخفاض، ويبقى النفط بالرغم من أهميته سلعة كسائر السلع تبحث عن مشترين ومستهلكين. وهذا ما يدفعنا لأن نعيد ذكر ما كرره كثير من الاقتصاديين بأن علينا التقليل من الاعتماد على النفط وإعادة النظر في هيكلة اقتصادنا بشكل منتج.