لم أحرص على كتابة وصيتي كما حرصت عليها هذه الأيام
والسبب أني معلمة، فرزقي ليس سهلاً كما يقال، لأنني معلمة.. أخرج قبل أن تراني الشمس..
اخرج قبل أن تطير الطيور من أعشاشها..
احمل حقيبتي المليئة بأوراق الاختبارات العشوائية وبيدي جهازي المحمول، أما جهاز البروجكتر الخاص بي علقته على كتفي الأيمن ليعتدل توازني..
وأكثر الأشياء التي احتار في كيفية حملها هو دفتر التحضير وملف الإنجاز لذلك أتناوله بالتناوب بين يدي اليمنى ويدي اليسرى حتى أصل إلى باب الحافلة..
ولأني معلمة أو لأني امرأة بالمعنى الصحيح..
لا يحق لي الاعتراض.. التنفيذ فقط..
والعمل دون توقف..
فأنا استقل حافلة فاخرة لونها كالكفن تماماً..
حافلة كالقبر المتحرك..
مساحة مستطيلة..
بلا مقاعد..
خالية من كل شيء سوى ستائر بالية..
ترتمي في زواياها أجساد انهكتها طول المسافات..
الحافلة بلا صيانة حافلة بالمفاجآت..
ويقودها سائق بارع في تجاوز السرعة وتخطي الحواجز كيلا نتخطى نحن الخط الأحمر عند الوقيع..
أما إذا طبق نظام البصمة فسائق سيطبق نظرية اينشتين النسبية، اعلم يا سادة أنكم تتساءلون: كيف يتم ذلك؟
وبما أن تخصصي لغة عربية كُلفت بتدريس الرياضيات في إحدى السنوات فتعلمت بعضاً من علمه رغم أنه في قرارة نفسي أشعر أني فاشلة في تلقينه..
تقول هذه النظرية إنه إذا كانت سرعة الجسم أكبر من سرعة الضوء يحدث عندها اختراق لحاجز الزمن فيدخل الجسم في الماضي كثيرات هن من دخلن في الماضي رحمهن الله..
كلها أقدار وللأقدار أسباب..
كلها أمانات خشيت منها الجبال..
قد تقولون السبب هو في رداءة الحافلة وتهور السائق قد يكون ذاك
قد تقولون إن الحل هو توفر حافلات متكاملة وسائقون مدربون
هذا ليس حلاً مجدياً لوقف نزف الدماء..
نقل المعلمات إلى أقرب مكان لسكنهن هو الحل الأمثل
أو توفير سكن عائلي متكامل يتوفر فيه الأمن وراحة وكل ما يلزم من مركز صحي وتسوق وحضانات وغيره, دون أن يكون في ذلك حرمان للمعلمة من حركة النقل..
في اللحظات الأخيرة من كتابتي لهذا المقال تراجعت فيها عن الإفصاح عن مكنون وصيتي، كتبتها بشيء من الأمل وطويتها
وأودعتها حقيبتي لتصحبني كل يوم في رحلة جهاد قد استشهد فيها يوماً..
فالجهاد بالعلم شهادة..
وفي الأخير يا سادة تذكروا قول الشاعر أحمد مطر:
وضعوني في إناء ثم قالوا لي تأقلم..
وأنا لست بماء..
أنا من طين السماء..
وإذا ضاق إنائي بنموي يتحطم..