استميح لغتنا العظيمة عذراً هذا التجاوز اللغوي الذي قد يتزامن مع يومها العالمي، فاللغة كائن حي حساس لكنها لا تمانع في ملاطفة حدودها مادام ذلك يحفظ لها وهجها وهيبتها ويصون علاقة معناها بمبناها، فكثير ما صحبها أهلها إلى آفاق وأجواء جديدة كلياً حتى لا تكون مكررة ومملة، ومن ذلك افتراض فرق، ولو من قبيل الجدل، بين
ما هو «وِزاري» وما هو وَزاري». الوزاري، بكسر الواو، ما يتعلق بالوزير، والوزاري، بفتحها ما يتعلق بالوزارة. والتأكيد على الفرق بين «التغيير» و»التعديل» حتى ولو كان الثاني جزءاً من الأول. ولو سلمنا بهذه الفروق البسيطة لأخذتنا في الواقع إلى آفاق فروق واقعية أرحب وأوسع بكثير. فهناك فرق بين أن نغير رأس الوزارة أو أن نغير جسدها. فالرأس السليم يحتاج لجسد سليم، والعكس صحيح.
وبالأمس حدث ما أطلق عليه البعض تغيير وِزاري، وأطلق عليه البعض الأخر تعديل وَزاري، واستبدلت الكلمتان ببعضهما وكأنما هما مترادفتان. ولو أمعنا النظر في المعنيين لوجدنا، أو أوجدنا فرقاً بين المعنيين يعكس واقعنا ويضيئه لنا. فالتغيير هو أن تأتي بجديد كلياً، أي أن التغيير الوِزاري هو أن تأتي بوزير جديد كلياً، شخصية لم يسبق لها أن شغلت منصباً حكومياً. والتعديل في هذا الشأن هو أن تحرك مسؤولاً ما من منصب إلى آخر.
والتغيير الوَزاري هو أن تستحدث وزارة جديدة، أو تغير جذرياً وضع أو مهام أو هيكلة وزارة قائمة. والتعديل الوَزاري هو أن تعمل لإصلاح الوزارة بتعديل وضع الوزارة القائم دونما مساس بهيكلها أو مهامها. فتغيير الوزير لا يعني بالضرورة تغيير الوزارة، وتغيير الوزارة قد لا يتطلب بالضرورة تعديل الوزير.
والعامة اعتادوا وجوه بعض الوزراء لفترات طويلة ولذلك خالوا أيّ تعديل لمنصب الوزير على أنه تغيير. وأحسوا مع تغيير من لم يعتادوا عليه إلا لفترة قصيرة أنه تعديل وزاري فقط. هذا مع حفظ الشكر والتقدير للوزراء الذين خدموا في وزاراتهم لفترات طويلة، فهم في النهاية خدموا وطنهم بكل طاقاتهم الممكنة وقدموا له أفضل فترات عمرهم. والواقع في مجتمعنا وللأسف أنك إذا أردت أن تتمكن الشيخوخة بكامل ثقلها وتبعاتها من مواطن سلمه مسؤولية كبيرة، ففي مجتمعنا يعيش البعض بعقلية العالم الثالث أو ربما دون ذلك، ويطالب من المسؤول بخدمات العالم الأول. ونستثني هنا من رحم ربي من المسؤولين ووهبه برودة في الأعصاب ومناعة ضد الضغوط بمختلف أشكالها وأحجامها. فالمال والجاه لا يعوضان المسؤول أجمل فترات العمر وراحة البال. فهنيئاً لمن سلف ومبروك لمن خلف.
نعود لما بدأنا به ونستمر لما نرمي إليه وهو أن التعديل لا يعني بالضرورة التغيير، وأن تعديل الوزير لا يعني بالضرورة تغيير الوزارة. فوزاراتنا محصنة بأنظمة وتقاليد تجعل التغيير مهمة شبه مستحيلة، ولو أضفنا لذلك دهاليز وأنفاق البيروقراطية التي حفرتها الأجهزة الإدارية المتعاقبة لأدركنا أن التغيير الوزاري يتطلب أكثر من تغيير الوزير. والكاتب يثق في جميع من اختارتهم حكومتنا لنا من مسؤولين، وكثير منهم عرفت عنه الاستقامة، والجدارة، والكفاءة، ولكنه ما أن يدخل بعضهم دهاليز الوزارة ومتاهاتها حتى يتمكن منهم اليأس تدريجيًا فيدرك أنه ليس بالإمكان أكثر مما كان، وأنه ليس بإمكانه كخلف أن يقدم أكثر مما قدمه السلف. فيتحول دوره من مغير للأمور إلى مسير لها. ثم يبدأ فصل جديد من النقد والتجريح الذي يطالب بالتعديل كنوع من التغيير.
علينا جميعاً أن ندرك أن الله لا يغير ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا. وأنه لا يمكن أن ينجز شيئاً بدون المواطن وبدون تعاونه الكامل. فإذا أردنا أن نحارب الفساد فلنبدأ بأنفسنا ولنمتنع عن الممارسات الفاسدة، فكثير من الفساد يفرضه المجتمع على المسؤول وليس العكس. وعلينا أن نفضح الفساد بنية الإصلاح وليس التشهير والتجريح. وإذا كنا نريد شوارع نظيفة علينا أن نتوقف عن توسيخها ورمي النفايات فيها قبل المطالبة بتنظيفها. وإذا كنا نريد مدارس جيدة علينا أن نخلص العمل فيها، وأن نتعاون مع مسؤوليها، وربما التبرع لها إذا ما كان الأمر مهماً أو مستعجلاً. وإذا أردنا شوارع آمنه فلنحترم أنظمة السلامة والمرور. ففي كثير من الأمور نحن ولاة أمر أنفسنا. وما لم نصلح أنفسنا في جوانب كثيرة من حياتنا لن يتمكن مسؤول من إصلاحنا. ولو راعينا بعضنا البعض الآخر بما يرضي الله ويتوافق مع الأمانة والأخلاق لتعجبنا من سهولة وسرعة صلاح أمرنا. عكس ذلك لن يستطيع أيّ مسؤول أن يعمل لإصلاح أمورنا، وسنكون نحن أول أسباب يأسه وإحباطه.
ولذا وبالنظر لبعض التعيينات الجديدة فهي قد تدخل في خانة التعديلات الِوزارية ونأمل أن تثمر في إحداث تغييرات وَزارية. فالمسؤولون الذين تم تعيينهم تم جلبهم من مناصب حكومية أخرى بعضها إن لم يكن وزارياً فهو شبه وزاري. أي أنهم أشخاص مجربون ومشهود لهم بالكفاءة والوطنية والإخلاص. والكثير من البلدان المجاورة تغبطنا على توفر، ولله الحمد، الكثير من الكفاءات المؤهلة في بلادنا. ولذا فهم بلا شك قادرون على تولي مهامهم القيادية ومعظمهم متحمس لذلك. ولكن يبقى الجانب الآخر المهم وهو وضع وزاراتنا، فالوزير الجديد، وخصوصاً الشباب منهم، قد يجدون أنفسهم في قران مع وزارات قد شاخت وبلغت سن اليأس.
فما المطلوب حتى نستفيد من قدرات مسؤولينا القيادية ومن عصارة تجاربهم؟.. قد يكون المطلوب هو إطلاق أيديهم بشكل كامل لينفذوا رؤاهم وطموحاتهم، ولكن ذلك لا يكون بعيداً من مساءلتهم ومحاسبتهم فيما بعد. فلتكن المسؤولية كاملة، والتجديد أو -لا سمح الله- الإعفاء، بمساءلة وجردة حساب دقيقة. فالنفس مهما كان المرء صالحاً أمّارة بالسوء. ولكن إحسان الظن واجب، ومنح الثقة ضرورة.
ما أقصده بإطلاق يد وزرائنا الجدد في أن يحولوا التعديل الوِزاري إلى تغيير وَزاري، هو تحريرهم من بعض القيود البيروقراطية التي تقيد كثيراً من جوانب التنمية في بلادنا وبعضها أنظمة أكل عليها الدهر وشرب، وهضمتها السنون كما هضمت كثيراً من القدرات المهدرة لدينا. وأخص بذلك بعض أنظمة الخدمة المدنية، وبعض أنظمتنا المالية. وهي أنظمة في مجملها وضعت بحسن نية وللحفاظ على مؤسساتنا من الفساد والهدر. ولكن واقع الحال يؤكد أنها لم تنجح فيما وضعت له بل نجحت بكل كفاءة واقتدار في تعطيل الكثير من المشروعات، وفي تقييد الكثير من القدرات، وتعميق البيروقراطية، وكثير من الخبراء يعتقد أنها الخط الفاصل في تطور ونمو القطاع الخاص بشكل أفضل من العام، بل ربما يمكن القول إنها الخط الفاصل في تفوق بعض مشروعات جيراننا علينا. والمثل يقول: (أرسل حكيماً ولا توصه)، ومن أهم مبادئ الإدارة موازنة الصلاحيات بالمسؤوليات. وللمعلومية فالكاتب يكن لوزيري المالية ووزير الخدمة المدنية أقصى درجات التقدير والاحترام، ويجزم أنهما من أقدر الوزراء لدينا، ولكن لعلنا نجرب أساليب جديدة في العمل ونخرج من صندوق الشكوك و البدء بافتراض انعدام المسؤولية الذي حبسنا أنفسنا فيه في العقود الأخيرة. أتمنى لوزرائنا الجدد كل التوفيق, وأن ينفع الله بجهودهم الوطن والمواطن.