تعيش أمم متجاورة جغرافيًا متحدة تاريخيًا متكافلة اقتصادياً لكنها مختلفة فكرياً وعاطفياً، والسبب هو الاختلاف اللغوي. وتتجاوز أهمية اللغة وظيفتها التخاطبية الوقتية إلى كونها أداة التفكير ومخزن الوعي ومكنز الذاكرة الجمعية للشعوب.
واللغة أداة توارث البطولات والملاحم التي تغذي فخر الشعوب بنفسها. ونستطيع قراءة التاريخ الصادق للشعوب من لغتهم فقط: حقبهم، أُناسهم، فرقهم، أدبهم، وجميل عواطفهم. وتبوح اللغة عادة بما هو أصدق وأعمق من كتب التاريخ التي تكتب بها، فلا يمكن التلاعب باللغة تلاعب المؤرخين بالروايات التاريخية، فالتاريخ ملك المؤرخ أو ربما السلطة التي تكتبه واللغة ملك المجتمع والزمان والمكان.
ويدرك علماء اللغة وعلماء الثقافات أنّ التنوع اللغوي هو ما يحفظ التنوع الثقافي ويضفي على العالم هذا الجمال الأثني الذي نشد الرحال للاستمتاع به، وعندما تنقرض لغة شعب ما تنقرض معه هوية أفراده وينقرض معها وعيهم فيذوبون في وعي غيرهم وتمسخ هويتهم. ولذا فنحن اليوم في سباق للحفاظ على ما تبقى من بعض اللغات التي أهملت حتى لا تختفي ويفقد العالم الفكري والإنساني أطياف من تنوعه وتوهجه. فلكل ثقافة زوايا إبداعية ومخيلة ثقافية خاصة بها تضيف بها إلى جمال الإرث الحضاري للإنسان.
ورغم التقدم العلمي وتفتّح كثير من الحقائق الكونية والإنسانية على أبحاثة المتواصلة إلا أن اللغة لا تزال منيعة في ماهيتها على اكتشافاته. ويعتقد كثير من العلماء أن اللغة وعلاقتها بالعقل والمعنى ستظل إلى ما شاء الله عصية على المعرفة، وربما تشكل آخر حصون الغموض أمام البحث العلمي. غير أنه كلما تقدم العلم اكتشفنا معه جمال وأهمية اللغة. ومن نعم الله على خلقه أن جعل لغاتهم على مستوى واحد من التعقيد والقدرة على التعبير، ولذا فالانتصار على ما يعتقد بأنه تفاضل وتمايز لغوي وعرقي بين الشعوب يُعد أكبر انتصار ديمقراطي يسجل في التاريخ للبحث اللساني. فمهما تمايزت الأمم من حيث الثراء الاقتصادي والقوة المادية تبقى متساوية في ثروتها اللغوية. فلكل لغة جمالها ومعاييرها التي لا تقارن بأي لغة أخرى.
وأثبت البحث اللغوي أن اللغة أساس الوعي الجمعي للشعوب والمحدد الأساس لهويتهم القومية، لذا فاللغة هي الوعي الأصيل والهوية الحقيقية للأمة لا الحدود الجغرافية. والأصالة لا تعني النقاء والتقادم بل تعني الصدق والواقع. ومع التقارب السريع للشعوب ومع عولمة كثير من أمور الإنسان، تمت إعادة تعريف الحدود بين الأمم من حدود جغرافية إلى حدود لغوية. وأصبحت اللغة مع تداخل الحدود الجغرافية وتقاربها خط الدفاع الأول للثقافات وأداة صمود الأنا الجمعية للأمم أمام طوفان الأممية. واللغة ذات حية وجسد متغير في منتهى الحساسية لما يدور في خلد الأمة وما يدور حولها. وعندما تنطق الأمم بما هو مهم للبشرية تصغى الأمم من حولها وتتأثر بها، وعندما تسكن وتصغي فهي تتأثر بما يدور حولها وتتلاقح معه. ولذا فالزعم بالنقاء اللغوي لأي لغة كانت وهم وخيال بنته اللغة ذاتها.
ولا شك بأن الحفاظ على اللغة ونقلها من حالة السكون والركود إلى حالة التفاعل والتأثير مهم جداً إذا ما أردنا الحفاظ عليها من الجمود والتأثر بغيرها. وبدون هذا التفاعل الحي لا يمكن الحفاظ على تطور اللغة ونضارتها وشبابها، وبدون ذلك تشيخ اللغة ويشيخ وعي أمتها معها مهما كال لها أهلها من المديح أو سطروا من العرائض المطالبة بالحفاظ عليها. فلا يمكن تطوير اللغة خارج الواقع المعاش لأهلها. وللغة زخمها الخاص بها تتغير بموجبه وبناءً عليه وبأسلوب تفاعلها مع ما يدور حولها. فاللغة مخلصة للأمة التي تتحدث بها ولا يمكن أن تخونها مهما بذل من جهد لحملها على غير ذلك.
واللغة ترث ولا تُورث، فهي ترث تراث سلف الأمة ليس لتورثه لمن خلفهم ولكن لتجعله ماثلاً لهم. يستمر هذا التراث ويتطور ما تفاعل مع الواقع الجديد وتأقلم معه وتطور مع تطوره، لكنه يضمحل عند تخليده فقط مع هجرانه وخلق قطيعة معه. فالمتاحف التاريخية تضم الأشياء الجميلة التي يتأملها الناس ولا يعيشونها ويتفاعلون معها، وعندما ينظر للغة نظرة الأشياء الجميلة في المتاحف، نتغني بها ونتحسر على فقدانها فمن المستحيل استعادتها مرة أخرى مهما بذل من غال ونفيس. فاللغة وفية للخلف أيضاً مستعدة لتلبية مهماتها في حياتهم المتجددة دون النظر لماضيها. والسبيل الوحيد للنهوض باللغة لا يكون باستعادة ماضيها، استعادتها كما كانت بل بتجديد حاضرها فلكل زمان واقع ولسان، وعلينا ألا نصاب بالرهاب من تغير اللغة فهي نحن إن تقدمنا تقدمت وإن تخلفنا تخلفت. فالتغير سمة التاريخ والأمم، واللغة من أهم وأصدق مظاهرة. وقد باءت جميع محاولات التأثير في اللغة بالفشل، ولم تنفع الأكاديميات والمجامع اللغوية في الوقوف أمام زخم تغير اللغة، بل تحولت هذه الأكاديميات والمجامع ذاتها إلى إرث لغوي هجين يجمع بين ماضٍ مهجور وحاضر مأثور، بل أن البعض منها أصبح عائقاً أمام تطور اللغة.
فحيثما تكونوا تكون لغتكم، تتزاوج الأعراق وتتداخل الأمم والمجتمعات وتتطور اللغة لذلك ولكنها مهما تطورت لا تتغير جذرياً بل تتحول في شكلها الخارجي من طور لآخر مع محافظتها على هوية عامة تتطور من خلالها. ولذا يطلق علماء اللغة المحدثون وصف «الانسياق» على التغير اللغوي، لأنه يحدث ببطء يلامس خارج اللغة فقط لا عمقها ولذا لا يحس به المجتمع. ويكون الانسياق اللغوي مع الواقع أحد آليات اللغة للحفاظ على بقائها، لأنه بدون ذلك قد لا تصمد أمام منافسة اللغات الأخرى، وقد تندثر. ولذا فالمحافظة على هوية الأمة لا تكون لا بمحاولة تجميد اللغة ولا بتمجيدها فقط ولكن بالتماشي مع انسياقها والتكيف معه، ولا بد أن يكون للمجتمع ثقافة قوية متجددة تنساق معها اللغة وتتجدد حسب الحاجة والتطور إذا ما أريد للغته البقاء.
واللغة والثقافة وجهان لعملة واحدة، فالانبهار الثقافي بالثقافات الأخرى دافعه الأول الإحساس بجمود الثقافة الوطنية وعدم قدرتها على مجاراة الواقع، فيكون التغير الوافد في الواقع أسرع من الانسياق في اللغة، فيتحول الانبهار الثقافي إلى تماهٍ لغوي. فالوعي الأصيل يكون بلغة أصيلة متجددة لا لغة أصيلة جامدة، والجمود هو المرض الثقافي الأول الذي يصيب المجتمعات، ومن أهم أسبابه التصور الخاطئ بالقدرة على المحافظة على اللغة والتأثير عليها من خارجها بمحاولة إيقاف انسياقها. واللغة كالبحر ليس فقط لأن في أحشائها الدر كامن، كما قال شاعرنا الكبير العظيم حافظ إبراهيم، بل لأنها كالبحر تموج وتهدأ تمتد وتنحسر ولا يمكن أن تحدد حدودها أو عمقها، فهي في حالة تموّج دائم، وبها مع الدرر شواطئ ومرافئ مختلفة تؤمها فئات مجتمعها لأهدافها المختلفة. فاللغة في عمومها بحر غير متجانس في العمق واللون، وهي خليط كبير من اللهجات، والأساليب، وأنماط النصوص، تتكيف بأحوال متكلميها وتتغير بتغير أزمانهم وعلاقاتهم، ولو نظرت للغة قوم لاستشفيت أحوالهم، كما قال الكواكبي. فالتنوع اللغوي داخل اللغة ذاتها لا يعيبها بل يزيدها حيوية وبريقاً وقد يكون ضرورياً لتجددها. والمركزية اللغوية تعادل التسلط السياسي في مفهوم فلاسفة اللغة.
ورغم أن اللغة أصدق مرآة للشعوب، إلا أنها الأداة الأقوى والسلاح الأمضى لتزييف وعيهم. فالوقائع المتخيلة التي لا تستند لبرهان مادي جميعها طابعها لغوي: خرافات الماضي، وأحلام الواقع، وتنبؤات المستقبل جميعها كيانات لغوية. واللغة لا تكون صادقة إلا إذا صدق متكلموها بها، وتكون كاذبة إذا ما رغبوا التلاعب بها. وما يميز لغة الإنسان عن لغات الكائنات الأخرى، إذا ما اعتبرنا لبعض الكائنات الأخرى لغات، هي قدرتها على الكذب، فالكذب صفة بشرية بامتياز. وفي الختام أود القول إنه لا حاجة بنا لحراسة لغتنا لأن لغتنا هي التي تحرسنا، ولكن علينا أن نصدق بها ومعها.