وحين نرصد سيرة الحب هذه وفق منطق تعاقبي تغرينا به بعض النصوص، فلعل المغامرات الأولى والأهم عادةً ما تحدث في منتصف المسافة بين حب الطفولة البريء، فيما يزعمون، وحب الرجولة المتأخر الراشد، إن جاز مع الحب رشد.. فالمراهقة رهق فاتن لأن شهوات اللعب الحر بأشياء الحياة اليومية لا تلبث أن تنحسر لصالح شهوات الجسد وقد بدأت مكوناته العضوية وكيمياؤه الحيوية تطالب الشخص بالتنبه لها ومحاولة إشباعها كحاجات غريزية سويّة ولو رمزياً.
من هنا عادة ما تكون الفتاة التي تتمحور حولها تجربة الحب في هذه المرحلة الانتقالية أيقونة الروح التي لا تُنسى، خصوصاً إن كانت المشاعر متبادلة بين الطرفين.
هذا، تحديداً ما نجده خلف عتبة المجموعة هذه مباشرة، أي في القصيدة بعنوان «ما يشبه النسيان»، وهي الأطول متناً والأغنى دلالة في المجموعة كلها فيما نرى.. وقراءتها تكشف أنها نص استعادي لتجربة عاطفية مرّت عليها عقود من الزمن، لكن تفاصيلها لا تلبث أن تنبعث حية متقدة عند أول لقاء مفاجئ جمع العاشقين دون توقع أو انتظار، فمثّل حافز القول الشعري والموجِّه لمساره، وهكذا يبدأ:
و«البارحة»
فاض اليمام على «رواشين البيوت»، وخضرة الأغصان
و«الباصات» والعربات، وهي تئن خلف خيولها البيضاء
رائحة القرنفل والبهار وبرقع الشقراء في سوق الندى،
و«اثنان» (ص 6).
ولا يخفى أننا أمام مطلع يشبه الغناء الشجي المألوف لأن العبارة الاستهلالية راسخة في الذاكرة الجمعية لكثرة ما ترددت في قصائد الحب وأغنياته الشعبية والفصيحة، وعادة ما ترتبط بالشكوى من الوجد الذي يتقد في عتمة الليل، فيُورث العاشق المنفرد سهر العين وسرحان الخيال وراء أطياف المحبوبة الحاضرة المُفتقدَة.
ثم تتحول لعبة التلفظ من البوح العاطفي إلى السرد الحكائي في الجملة الشعرية التالية، فلا يلبث القول أن يموضع تجربة الحب في الزمن والمكان فيتضح سرّ اللوعة وينفضح مستورها لأنها تتصل بحدث مفصلي ظل متوارياً خلف ستارة عتيمة ينتظر لحظة انكشافه لا غير:
كان البيت أقرب ما يكون لباب مكة
ثمة انفتحت على المعنى تراتيل الصبا،
خفقان قلب مراهق يكفي لإغراق المدى
وصبيةٌ عطشى على باب المدينة...(ص 7).
فعلامات مثل: البيت، باب مكة، قلب مراهق، صبية عطشى.. تتعاقب ضمن صيغ كنائية واستعارية شفافة لتدل على أن علاقة الحب تلك جمعت بين فتى وصبية كانا يسكنان بيتين متجاورين في حارة باب مكة بمدينة جدة مما يجعل المتلقي يتشوّق لمعرفة بقية الحكاية الفاتنة.
ولن يخيب ظنه أو يؤجل توقعه طويلاً لأن المقاطع التالية ستقدم له ما يريد من تفاصيل العلاقة وملابساتها وإن بهذه اللغة البلاغية المختزلة التي تضفي على ذكريات الذاكرة العادية لبوسها الجمالي الفاتن.. فبنت الجيران هذه فتاة شامية جميلة تعلق بها فتى قروي خجول لا يتعرض لها ليبوح بمشاعره تجاهها، بل يترقب وقت «الباص» ليرنو خلف النافذة منتظراً لفتتها وهفهفة جدائلها ثم يمضي «صوب مشيتها كمن يتعقب الأمطار».
ونظراً لحداثة السن ومحدودية التجربة يتذكر «الآن» حركات لم يكن يدرك جيداً معناها، وإن شعر بوقعها كتلك القبلة المرسولة بالكف، وتلك العباءة المزاحة عن الكتفين، ولعل غموضها عزز فتنته ببريق الشام في العينين وبياض النهار في الوجه الوضاء (ص 8).
التواصل الذي فهمه بشكل أفضل ويذكره جيداً تحقّق بفضل عبارة شعرية استعارتها الفتاة من مقطع أغنية فيروزية لترددها كلما تقلصت المسافة بينهما «كيفك إنت.. ملا إنت» (وكنت أحسبها من هدايا زياد الحديثة لأمه!). فالفتى الريفي ربما لم يكن قد سمع بفيروز حينها، لكن حسه الشعري المبكر جعل هذه العبارة المغنّاة بصوت المحبوبة تستقر في الذاكرة كوثيقة دالة على تبادل المشاعر بين جارين غريبين جمعتهما الصدفة في الحي الشعبي ذاته.. وتدل التعبيرات على شيء آخر يعزز ما نذهب إليه، فالفتاة تنتمي لمجتمع مديني متفتح نسبياً، ولذا تبدو أكثر جرأة من حبيبها البريء المتوجِّس، ولا غرابة بالتالي أن تبادر وتعلن عبر حركات الجسد ومنتخبات اللغة فيما هو يخاتل ثقافة محافظة تُعد العلاقة بينهما عيباً أو حراماً.. حتى حين يدنو الليل الساتر يظل ساهراً ينتظر صعودها إلى السطح المجاور ليتخيلها وهي تنصب خيمتها (ناموسيتها) وتنضو ملابسها ولا شيء غير ذلك!.
إننا، إذن أمام شكل من أشكال الحب البريء الذي تحاصره الرقابات فلا يشبع ولا ينمو، ولذا يستعيده الشاعر في تلك الليلة بأسى ومتعة كذكرى بعيدة، وحاله حال من يقف على الأطلال واثقاً ألا أمل في غير البوح والشكوى.
ولا يخفى على الناقد أن النص كله يتأسس على مفارقة مأساوية مألوفة في كل النصوص السيرية، وتطل من الفجوة ما بين النسيان والتذكّر، أو من الإقامة في لحظة التوتر بين الماضي الذي غادره العاشق منذ عقود والحاضر الذي يعيده إليه ويغريه بالحوار معه.. ويتعمق معنى المفارقة ومفعولاتها حين يبدو الشاعر ذاته مندهشاً من وقع المفاجأة إذ توهم أن الزمن مضى ومحا كل شيء، وما إن حدث اللقاء حتى عادت جذوة الحب القديم تتقد وتدفعه إلى سرد التجربة بهذه اللغة الدرامية المحتدمة التي تنكأ الجراح وتعالجها في الوقت نفسه.
من هنا لا يعود النص مجرد تدوين لحكاية عاطفية قديمة بلغة شعرية جديدة، بل تشخيص فني لواحدة من تلك التجارب الاستثنائية التي تسهم في تشكيل وجدان الكائن ووعيه، ولذا تظل حيّة رغم إكراهات الشروط التي حفتها بالحرمان وهددتها بالنسيان.
1 - قصيدة الحب الأول هي الأطول والأهم، كما قلنا آنفاً، ولذا حرص الشاعر نفسه على أن يضعها موضع النص المتقدم رتبة ودلالة.. وهناك مؤشرات أخرى تعزز ما نذهب إليه.. فالنص الاستهلالي بعنوان «ملاك الصدف» يمثل تمهيداً لها:
يا ملاك الصدف، كيف لم نختلف,
أنت عريتني من صباي، وهيأتني حارساً للمسرات
في كل هذي الغرف
وأنا كنت رمحك في الصيد
لكنني دائماً
لا أصيب الهدف! (ص 5).
والنص الموالي بعنوان «امرأة « يصلح، رغم سبقه زمنياً، خاتمة لها، خصوصاً أنه يتحدث عن لغو البدايات، وينتهي بمعلومة تفيد بأنه كتب في جدة، وبمناسبة معرض الكتاب عام 2000م:
ما الذي يجعل من امرأةٍ،في حجرةٍ نائية، عدو حصان؟
إنه لغو البدايات التي أسرى بها الحرف
وقنديل المسافات التي يفتحها هذا المكان.
(ص 16).
ومما يؤكد التعالق العضوي والجمالي بين هذه النصوص وأخريات بعدها أنها تجتمع كلها تحت عنوان واحد «ما يشبه اسمها»، وتستغرق مكوناته نصف المجموعة تقريباً.. فالظاهر أن لكل نص وجوده المستقل كتابياً، أما في العمق فالنصوص كلها جزئيات من نص جامع يتمحور حول هذا الاسم الذي لا يُصرّح به وإن أحال إلى فتاة الماضي وامرأة الراهن التي كبرت وتزوجت لكنها لا تزال وفيّة لتجربة الحب تلك كما هي حال الشاعر الذي يتساءل شجياً طروباً مندهشاً قبل أن يسدل الستار على المشهد:
يا الله...
أي تميمة حفظتك في الطوفان؟
قالت: صرت مملكةً بها اثنان
أنت وصاحبي
فضللتُ في الطرقات،
حتى مسّني ما يشبه النسيان!! (ص 16).
- الرياض