الرأي والرأي الآخر لا يجتمعان في زمن واحد، بالقوة نفسها ولا بالانتشار نفسه، فكل زمن يستقل برأي أغلبيته ويطغى حتى لا يُسمع لغير الأغلبية فيه رأيٌ إلا مختنقاً بالمحظور أو في طلاسم يسمّونها هذيان موتورين.
تلك حقيقة كان يعرفها كل من قرأ التاريخ جيداً وبات يعرفها أكثر كل من يعيش في زماننا الآن.
فالآن قد اكتملت صفات الزمن الجديد.
في الزمن الذي سبق هذا الزمن بقليل، كنتُ حين أقرأ في كتاب من الكتب المكرّسة أغلبياً بحكم الزمن الغارق في التعاطف والتجييش المتواري خلفه (في ظلال القرآن لسيد قطب مثلاً) أجدني بعد كل صفحة في التمهيد لفقرة أو في ختامها أريد أن أقول (لا) ولكنني كنت أخشى القول حتى لا أتصادم مع زمن يرى في هذا الكتاب حكمة ومصداقية وتضحية لم أستطع رؤيتها لقصور في إمكاناتي الرؤيوية – أو حتى لا أبدو هكذا – فآثرتُ الصمت والكبت معتقداً أنه سيكون للأبد، ولم أدر أن الأبد في أزمنتنا قصير جداً وتتجدد أمداؤه بتجدد الزمن.
وها قد تجدد – أو تغير كلياً – زمنٌ بزمنٍ صرنا نطالع فيه علماء وفقهاء في الدين واللغة يتسابقون على دحض كل ما جاء في ذلك الكتاب، ولا أريد القول إن بعضهم في زمن مضى كان يمتدح الكتاب ويجهّل كل من يحاول الانتقاص منه أو تقويم انحرافاته، فالواقع أن الزمن من كان يفرض ذلك المديح والتبجيل قبل أن يجيء زمن آخر يفرض الذم والتحذير من الكتاب نفسه الذي لم يتغير فيه حرفٌ واحد!
موضوعي هنا ليس كتاب (في ظلال القرآن) ولا أدبيات (سيّد قطب) ولا حتى (جماعة الإخوان) إنما هو مجرد تأمل في الأزمنة، وكيف أن الآراء تتحد في زمن وتنعكس اتحاداً مضاداً في زمن آخر، ومقاربة ذلك بمقولة (التاريخ يكتبه المنتصرون) فما نراه في الزمنين الأخيرين هو أن التاريخ لا يُكتب مرة واحدة، ولا من زاوية واحدة، ولا في اتجاه واحد. كما أن الانتصار لا يتحدد بشكل قاطع بعد نهاية كل معركة، فثمة معارك تنبع من معارك ويتوالى على كل فريق من الهزائم والانتصارات بما لا ينتهي معنوياً حتى بانتهائه مادياً أو على أرض الواقع المتغير دائماً.
وكذلك هو التاريخ، فالتاريخ بمعناه الواقعي لا يمكن تزويره، كمثال: كتاب (في ظلال القرآن) هو من تأليف سيّد قطب، الذي كان بالأساس يحاول أن يكون شاعراً أديباً فلم يكن، فحاول أن يكون ناقداً أدبياً فلم يُتقبّل منه.
ثم اتجه إلى الفكر القرآني موظفاً إمكاناته اللغوية وملكاته الأدبية دعماً لجماعة الإخوان وتطرّفاً لناحيتهم حتى حدود الزعامة الروحية غير المعلنة، بل والمغطاة بمناصب صغيرة تظهره كفرد فاعل من أفرادها وإن اختلفت بعض تنظيرات قادة الجماعة التي كانت تهادن حيناً لتضع غيرها في المواجهة، وهو العائد من أمريكا، وفي نظر الأغلبية منهم أنه الأكثر ثقافة ومعرفة بأمور الأديان المنحرفة والدُّنى الزائفة، فاحتفلوا بكتاباته وآرائه الحادّة واتخذوها منهجاً ودستوراً معنوياً – يتحيّن التنفيذ حركياً! – فهم لا يخرجون عنه أو عليه حتى استطاعوا تعميم كتابه (الظلال) بشتى الوسائل الترويجية والتشويقية في مختلف البلدان العربية والإسلامية ككتاب يبسّط شروحات القرآن الكريم بلغة أدبية وأسلوب قصصي رفيع وسلس يستطيع استيعابه كل من يفكّ الحرف. وتلك هي الكارثة!
الآن، والزمن غير الزمن، فقد أصبح ذلك الكتاب محل انتقاد ورفض وتجريم وتخطئة كل من يستطيع أن يفكّ الحرف أيضاً.
وهنا اتخذ التاريخُ انحناءه نحو رأي آخر هو في حقيقته زمنٌ آخر. هل اتضحت الصورة؟.
باختصار أقول: الرأي لا يكون رأياً خاصاً حين يعمم، مهما تكن أسباب ووسائل وغايات التعميم، فهو سيصبح رأياً عاماً لزمن كامل وإن اختلفت أقليته على أكثريته.
لذلك لا أرى أيّ معنى لعبارة (الرأي والرأي الآخر) التي تقفز أمامنا في الترويج لكل وسيلة إعلامية أو برنامج حواريّ أو صفحة مقالات.
بل هو (زمنٌ) يستحيل أن يتساوى (بزمنٍ آخر) في الرأي، طالما أن أحداثه ووقائعه قد جعلته يستقل عن سابقه ويتخذ شكل التصحيح الذي نحتاجه فعلاً بين كل زمنٍ يتبنى رأياً وزمنٍ آخر يتبنى الرأي الآخر.
والمثال نفسه ينطبق على حالات كثيرة أخرى، كان الرأي فيها يتخذ شكل زمن كامل ويتجاوز كثيراً حدود الرأي نفسه إلى حدود ملامح شخصية هيأ لها الزمنُ أن تكون محورية ولها أتباعها الذين يجندون كل طاقاتهم في سبيل تشكيل زمن ينظّم نفسه بحسب مصالح قد تخفى على الأغلبية الذين بهم تتكوّن الأزمنة وتنحصر الآراء!
وتبقى نقطة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن لكل بقعة من العالم أزمنتها. وفي قلب كل زمنٍ تاريخٌ من الرأي الذي لا يزاحمه رأيٌ آخر.
- الرياض
ffnff69@hotmail.com