نعرف جميعاً أن لكل ثقافة مميزاتها من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والأنثروبولوجية، ومن سمات الثقافة العربية أن رؤية المجتمع لأبطال الرواية أو القصة الأسطورية ضبابية إلى الدرجة التي تدخلها في التعمية. لكن ما لا يبقى معقولاً، هو أن ينتقل هذا الهيكل إلى واقع الحياة العملية المعاصرة؛ فيطبق الناس في خياراتهم وتقويمهم للأشخاص معايير مستقاة من خلال تلك الرؤية المستقرة في اللاوعي.
تبدأ تلك الرؤية من زاوية المنزل والعائلة، حيث يرى أفراد الأسرة وربما القبيلة والقرية، أن سماتهم من أفضل ما يمكن تصوره، فيكون التحيز إليهم في الحكم بتميزهم، ومقارنة الآخرين المختلفين عنهم، بأنهم أقل قيمة وقدرة لأنهم مختلفون عن ذلك المعيار في الجودة. فيكون هنا الأب ورئيس القبيلة ووجيه القرية أو المنطقة هو الخارق في البطولة والمتميز بين أقرانه، ويصبح الأولاد هم الأصلح من بين أقرانهم لأي شيء يكون فيه المجال مرتبطاً باختيار.
طبعاً يكون لهذا الأمر والثقافة الناشئة عنه انعكاساته على تصورات عنصرية تنشأ في تلك البيئات، لكن الأهم من تلك الحزازات المتكونة من تلك التوجهات، التي يدعمها بعض المؤمنين بهذه الثقافة، هو أن تستشري في المواقع القيادية، دون أن تكون لمرشحيهم الكفاءة اللازمة لملء المكان الذي يراد منهم تولي إدارته.
ففي الحياة المدنية المعاصرة تختلف الأمور عنها في المجالس العشائرية، أو مكامن روابط الدم والانتماء؛ هي شبكات معقدة من الأعمال والمصالح، لا يمكن أن تدار أو يفكر فيها بالطريقة نفسها التي اعتدنا على التعامل معها من خلال دعم ابن القرية أو الناحية أو القبيلة، لأنه الأصلح لنا. وما دامت هذه «الأصلحية» عندنا سليمة من خلال تعصبنا لها، فإنها بلا شك ستكون بشيء من الديماغوجية صالحة أيضاً للكيانات المعقدة، التي أصبحنا نعيش فيها.
لاحظت مثالين صارخين لهذه الديماغوجية، وهي مجرد أمثلة للعديد من الحالات التي يعرفها الكثير منا؛ أحدهما ترشيح شخص لرئاسة مؤسسة كبرى، في الوقت الذي ما زال يحتفظ برئاسته لشركة طيران خاصة كبيرة وذات مسؤوليات متعددة، وأيضاً للمفاجأة عرفت أنه يرأس الخطوط السعودية ورئاسة الطيران المدني، الذي هو فرع كان مندمجاً في وزارة الدفاع، فأصبح هيئة مستقلة. وكل واحدة من هذه الأجهزة الكبرى يحتاج إلى أشخاص في شخص من ذوي القدرات الهائلة. فكيف يمكن لشخص مهما كان بارعاً أن يستطيع إدارة كل هذه الأجهزة مجتمعة؟ ثم هل خلت البلد من رجال مثله، يكون كل منهم على رأس أحد هذه الأجهزة؟ هذا عدا السؤال الأهم المؤجل إلى آخر المقالة بعد عرض المثال الثاني.
أما المثال الثاني، فكان متمثلاً في خلو رئاسة مجلس الإدارة في شركة اتصالات كبرى خلال الأيام الماضية بالاستقالة، فرشحت الجمعية العمومية لهذا المنصب رئيس مجلس مؤسسة التأمينات الاجتماعية، الذي هو عمل ليس بالهين، ويحتاج إلى رجل بألف رجل، كما يقولون، لكونها مؤسسة ضخمة جداً ولها استثمارات متعددة وعلاقات بكثير من الأجهزة العامة والخاصة. ومع ذلك لم يترك أيضاً موقعه القديم، ليحتل الموقع الجديد، كما أني لا أعرف إن كان له أيضاً أعمال أخرى تشبه صاحب المثال الأول. صحيح أن من أكبر المساهمين في تلك الشركة هي مؤسسة التأمينات الاجتماعية، ولهذا فاز ربما بأصوات المساهمين، ليتولى هذا المنصب، لكنها أيضاً شركة مساهمة سعودية، وتستحق أن يتولاها شخص يعطيها وقته كاملاً. ثم الآن السؤال الأهم: ألا يعد مثل هذا التعدد تضارباً للمصالح، وهو الذي من أجله لا يسمح لموظفي القطاع العام بإنشاء مؤسسات تجارية، لكيلا يحصل تقاطع تتضرر منه المؤسسة العامة؟
- الرياض