«خفيفاً كروح تفتش عن عرشها في الكلام
شهياً كفاتحة تترقرق في الذاكرة
يجيء الهوى
مثلما نفتح الباب» (ص 65).
1- من العسير على الناقد أن يكتب عن شعر صديق عزيز دون مجازفة. فالصداقة حجاب يتعيّن على الذات الناقدة هتكه واختراقه لحظة القراءة، لكن دون أمل في إزاحته نهائياً لتطل على النص بتجرد تام، وهنا تجد تهمة التحيّز كل مبرراتها.
وقد يحتد الرهان ويشتد حتى داخل الذات ذاتها وهي تحاول استبعاد شبهات التعاطف المسبق فيما لو قرأت نصاً فاتناً طرِبَت له وغنّت معه فأشادت به كما يمكن أن تفعله مع أي عمل جمالي لشخص آخر(لوحة تشكيلية، مقطوعة موسيقية، أغنية،ة منحوتة، رقصة.. إلخ ). ولعل هذا ما صرفني عن الكتابة عن منجزات علي الدميني الشعرية الغنية، حيث لم أحاورها غير مرة واحدة، وفي سياق مقاربة لأشكال حضور طرفة بن العبد في نصه الشهير بعنوان «الخبت» ونص آخر لقاسم حداد يحاور الشخصية الفذّة نفسها.
نعم، لا شك أن هناك سلسلة من المقولات والمفاهيم والمصطلحات النظرية والإجرائية التي يفترض أن تؤسس للقراءة فتنحو بها نحو المقاربة المعرفية الممنهجة أو» الموضوعية «، لكن الحياد التام يظل طيراً لا يُصاد وحلماً لا يتحقق وإن توهمنا وحاولنا.
وإذن فلا حلّ ولا حيلة إلا التخفف من خطل الادعاءات والقناعة بما يُعرف بالقراءة العاشقة التي عادة ما تجد تبريراتها في تعلقنا بالنص المقروء كما لو كان نصنا الخاص. أعلم جيداً أن هذه القراءة مشرعة على كل الاحتمالات، لكنني جربتها مع نصوص أصدقاء آخرين ولم تخيب ظني كثيراً (الحقيقة أن فتنتي بنصوص قاسم سبقت صداقتنا الحميمة، ومهدت لها دون شك، وهنا الفرق).
وفي كل الأحوال فما دمنا في مقام المغامرة فلنتقدم واثقين أن المحبة نعم المنطلق والدليل، حتى وإن قادتنا إلى شيء من تلك التأويلات الضالة التي لا تخلو منها أي قراءة، وربما تورطنا فيها أكثر فيما لو حاولنا تجنبها.
2- ولن أتحدث عن كل منجزات علي الدميني الشعرية، ولا مجال لتقصي التجربة في مسارها الزمني لاستكشاف تحولاتها الجمالية وآفاقها الدلالية لأن ذلك يتطلب جهداً من نوع آخر، وقد لا يتناسب وهذا المقام الاحتفالي المرح كعرس انتظرناه طويلاً. سأكتفي من النهر بقطرة تؤخذ عيّنة منه لتدل على أجمل ما فيه، ولقد وقع اختياري على نصوص من مجموعته الشعرية بعنوان « مثلما نفتح الباب « لسبب يبدو لي مقنعاً تماماً.
فحينما طُلب مني المشاركة في حفلة الاعتراف والوفاء هذه، ووافقت سعيداً بها، أعدت قراءة مجموعات الشاعر التي بين يدي وتلك التي زودني بها مشكوراً الصديق المبدع حسن الزهراني حينها. هنا تحديداً تبيّن لي وجاهة ما كنت أؤمن به من قبل، وبفضل نصوص هذه المجموعة تحديداً، وهو أن علي الدميني شاعر غنائي شفاف تتجلى شاعريته الأصيلة حين يتحدث عن الحب فيتقصى بواعثه ويبوح بشجونه ويتأمل مآلاته السعيدة أو الشقية.
وبدهي أن الحب الذي يؤسس لتجربة الكتابة الإبداعية ويستقطب جزئياتها لا بد أن يشكل موضوعاً متسعاً تتنوّع أبعاده وتعبيراته ومقاصده تنوّع قضاياه وملابساته وزوايا النظر إليه. والسبب أنه لا يعود مجرد حالة عاطفية عابرة ومعزولة عمّا سواها، بل سلسلة متصلة من تلك العلاقات البينية التي تجعل الذات المرهفة في اتصال حواري مشبوب مع أجمل ما تراه وتتعلق به في رحلة الحياة التي لا تكفّ عن التجدّد والتلوّن مغدقة على الكائن صنوف المكاسب والخسارات.
وبصيغة أخرى نقول إن تحول الحب إلى تيمة عميقة في كتابة إبداعية ما هو دليل أكيد على أنه طبع ترجمان رؤية شمولية للعالم وتشخيص تكراري لمواقف المبدع الذهنية العاطفية من كائناته و فضاءاته وأحداثه.
لا غرابة إذن لو ذهبنا، ولو على سبيل الفرض الآن، إلى أن نصوص هذه المجموعة الشعرية تشكل متناً واحداً يحكي سيرة الشاعر وفي مركزها تجربة الحب الذي اختبره منذ طفولته وظل يكبر معه ويفيض منه إلى الآخر والعالم وكأنه مسار خفي مضت فيه الذات منذ بدايات وعيها وظلت تعود إليه كلما زادت معاناتها فيما هي تجابه تحديات الحياة وتصر على كسب ما تيسر من رهاناتها.
3- كثيرة هي معاني الحب وأبوابه في تراثنا، ولو اعتمدنا أشهره فلنا أن نتساءل: ما الأبواب التي طرقها علي الدميني فانفتحت أمامه مواربة أو على أوسع مصاريعها؟
وستجيب نصوص هذه المجموعة، ومعها أخريات من مجموعاته السابقة واللاحقة حتماً، أن هناك ثلاثة أبواب طالما استقطبت اهتمام الشاعر وغذّت نصوصه أكثر من غيرها. أولها وأهمها حب المرأة الذي لا علة له من خارجه لأنه شكل من أشكال الافتتان بجماليات الآخر، إذ تلتقطها الحواس ويستجيب لها القلب دون روّية أو تفكير، وهو ما يسميه ابن حزم « العشق الصح يح «. وثانيها حب الشخصيات الاجتماعية الفعّالة التي تمثّل رمزاً لقيم فكرية وأخلاقية معينة تولّد في الذات مزيجاً من مشاعر الإعجاب والتعاطف والتعاضد نظراً للتشارك في القيم والمبادئ ذاتها. أما ثالث الأبواب وأوسعها فلنا أن نسميه محبة الحياة الحميمة التي يعيشها الناس كل يوم في كل مكان ويفترض أن تتسع لأحلامهم وحقوقهم المشروعة في الحرية والكرامة والأمن و العدالة.. إلخ.
ولتوحيد المنظور نقول إن الحب في نصوص علي الدميني هو قضية شخصية حميمة تتحول في مقامات وسياقات معينة إلى قضية اجتماعية عامة ومن ثم تظل تتسع وتتسامى لتصبح قضية إنسانية أعمق وأشمل مثلها مثل منظومة المبادئي والقيم الكبرى التي تؤطرها وتتحاور معها. وقبل أن نفصل القول بعض التفصيل لا بد أن ننبّه إلى مسألتين مهمتين نظراً ومنهاجاً.
الأولى أن القراءة ستوقفنا على قضايا إشكالية لا يمكن تجنبها لأنها تتولّد عن سيرورة التعارض بين علاقات الحب في هذه المستويات، ومجموعة من العوامل التي تجابهها وتعيق تحققها.
والثانية أننا سنركز على بعض النصوص التي تشخّص علاقات الحب بمعنى العشق لأنه النواة المركزية لكل العلاقات الأخرى، ولأن من مقاصد القراءة الراهنة إبراز فكر المحبة نقيضاً لفكر التوحش الذي يخرّب علاقات الرجل بالمرأة فيهدد إنسانية الإنسان في كل منا.
4- ذكرت في دراسة سابقة عن فكر المحبة في « طوق الحمامة «، أن ابن حزم الفقيه المجتهد والأديب العاشق قسّم الحب نظرياً إلى عشرة أبواب أولها وأعلاها رتبة المحبة في الله، وآخرها أو أدناها منزلة علاقة المحبة المتبادلة فيما بين رجل وامرأة تشاكلت أرواحهما فتآلفت ورنَت إلى التلاقي والاتحاد.
لكنه ما إن راح يحدد ويعرّف هذا الحب الأخير حتى بدا جلياً أن التراتبية قد انقلبت رأساً على كعب، وكأن الحب دال يسمي علاقة العشق هذه على سبيل الحقيقة ويسمي غيرها على سبيل المجاز لا غير !. فكل أجناس الحب « منقضية مع انقضاء عللها، وزائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها، فاترة ببعدها، حاشى محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس فهي التي لا فناء لها إلا بالموت « كما يقول (مقاربات حوارية، ص 196 ).
ويعود السبب وراء هذا الانقلاب الدلالي إلى أن لعبة السرد بدأت بصوت الفقيه الورع المحافظ الذي يفكر في قاريء مفترض يحترمه ويحاذر صدمته، لكنها انتهت بصوت عاشق مجرب مكلوم يؤلف رسالة في الحب فتتدفق ذكرياته وتضغط عليه انفعالاته لينسى العالم والخارج ويترك للذات كامل حقها في البوح الشفيف بمشاعره الحميمة نثراً وشعراً!
ونحن نتفهم اليوم وجهة نظره تماماً لأن الحب بهذا المعنى هو وحده الذي يستغرق دلالة الكلمة - المفهوم - بما هو يسمي تجربة وجودية عادةً ما تخترق الكيان وتزلزل الذهن وتسكن الجسد لتظل قادرة على الحضور المتصل في الوجدان والجسد مدى العمر.
ولا غرابة في العودة إلى ابن حزم هنا فهو حاضر في هذه المجموعة كنموذج بارز للعاشق الوفي لذاته و محبوبته « نعم «، ولكن أيضا كسلف صالح قدّم لأحفاده نظرية متكاملة في الحب تختلف تماما عما طرحه النقاد والفقهاء من قبل، والشاعر يحاورها من منظور جديد كما سنلاحظ.
5- لم يخصص علي الدميني حبيبة بعينها كما فعل شيخنا وغيره من المبدعين القدماء والمعاصرين، بل لوّح بصفات وسمات وملابسات لشخوص تطل أطيافها كالأثر في الطريق وكباقي الوشم في ظاهر اليد. وهذا الحضور الترميزي مبرّر بكون الذات الشاعرة تستعيد تجاربها العاطفية لا بقصد التباهي أو تأكيد الفحولة، بل لتنقذها من النسيان، ولتشرك الغير فيها وقد استحالت نصوصاً جمالية يراد لها أن تنفتح على مختلف القراء وأن تغوي بعضهم بالمضي في الطريق نفسه.
- الرياض