رصد سردي فاتن لدهشة الإنسان مما حوله
يبرع القاص عبدالجليل الحافظ من خلال مجموعته القصصية الجديدة «عتمة» في تصوير حالة إنسانية فريدة، قَلَّ أن تجدها في أعمال سردية أخرى، فهو المشغول دائماً في التقاط طُرفٍ ومُلَحٍ ومشاهد الحياة في بيئة يعاني أهلها قسوة الحياة، وتسلط الزمن، وفيض من محاولات يائسة بأن تصلح الأحوال، ويعتدل المركب بمن فيه من ركاب؛ لعلهم يصلون إلى الضفة الأخرى نحو هنائهم المزعوم بأقل خسائر ممكنة.
وما قصة «ميناء» في مستهل هذه المجموعة إلا وسم متداع ومؤثر في الوجدان.. فالحافظ عُنِيَ هنا بالتقاط التفاصيل الدقيقة للحياة على رصيف هذا الميناء الذي يخرج من لكونه حالة خاصة، أو مكانا معينا أو مؤطرا إلى ما هو أبعد منه، ليخرج النص ومستوى التلقي فيه من حالة الخاص إلى العام.
فمن خلال هذه القصة المتوامضة يرسم معاناة هذه الفتاة البسيطة التي جمعت رزقها من بيع المناديل على مدى ساعات وبلحظة أليمة فارقة فقدت المال البسيط في مياه الميناء حينما تعثرت برصيفه، ليصور ببراعة هذا المشهد الذي يختطه للعمل، فهو المعني تماما بالتقاط مثل هذه التفاصيل اليومية المؤثرة بعيدا عن الحشو، أو الإطالة أو الترهل.
تتولى قصص المجموعة على هذا النحو الجميل من الرصد السردي الفاتن، لتستمر الصور في التوالي معبرة عن عمق دهشة الإنسان العربي في صحرائه حينما يجد أن الزمن بات معاندا أكثر مما سبق، فلم يعد قادرا على العيش بسلام، حتى وإن استحضر الكثير من الرؤى والصور والأحلام، فالفاجعة تتجسد أيضا في مشهد التقطه الراوي ببراعة في قصة «انسكاب» حيث تداعت الصورة إلى ناتج أو محصلة أليمة حينما ينتظر الإنسان في صحرائه المطر.. لكنه وكبعد أليم تمطر حزنا وألماً لا يقوى على مجابهته.
يظهر فضاء المكان في هذه القصص على نحو واسع ومترام، إذ يعمد القاص عبدالجليل الحافظ ومن خلال هذه النصوص إلى استدراج القارئ، أو استمالته نحو فضاء مفتوح، يروح عنه. فمن خلاله يمكن أن يسكب له ما يريد.. فمن معاناة الإنسان في حياة قديمة قد ينقله إلى معاناة عصرية أخرى، تهتم بالمكان، وتلتقط أدق تفاصيله اليومية، إلا انه يحافظ على ولعه وسعادته بان تكون هذه الرؤية مختصرة ومكثفة بأقل العبارات، ليصل الراوي إلى مبتغاه من الحكاية، وما يريده الكاتب من هذا النص على نحو قصة « فيس بوك» الذي أوردها كشاهد على تداخل الحالة الخاصة كمعاناة بالحالة العامة كهم إنساني بات يسطر على الناس، ليرتسم المشهد على نحو غاية في الدقة والإتقان.
أما الزمان في فضاءات نصوص هذه المجموعة فإنه يتكئ على خيارات الكاتب وما ينتقيه للقارئ من صور ومشاهد عادة ما يكون فيها الزمن مرتهنا للحالة السردية التي يذيع الراوي بعضا من سيرتها، على نحو قصة «نظرة» حينما يلتقط تفاصيل هذه الحالة لامرأة تعاني، فيكون مشهد النار هنا ضياء إضافيا آخر للنهار الذي لم يعد حالة مكتملة المعاني، فلا بد من ضوء إضافي ينهل منه هذا المنقذ لهذه المرأة على حواف الموت عطشا وجوعاً.
لغة القصص في هذه المجموعة تعتمد على مستويين مختلفين من البناء، ففي المستوى الأول يعمد الكاتب «الحافظ» على رسم لغة سردية فنية غير متكلفة، إذ يشرع في رسم اللغة المناسبة لكل مشهد حياتي يستحضر فيه لغة الحكاية، لكنه لا يتبسط كثيرا في تناولها، لتصبح هذه اللغة معتمدة على المشهد وحسب؛ دون إخلال ببناء لحظة القصة القصيرة التي يتطلب منها التكثيف والإيجازوهذا ما عمد إليه الكاتب.
أما المستوى الثاني من بناء اللغة في هذه النصوص فإنه عمل على تقديم هذه الحكايات أو المشاهد من خلال لغة سهلة وغير مفخمة، تنهل من معين لغة متوازنة على نحو استحضارها في قصة «روح خلف النافذة» حينما جاءت اللغة جزلة ومتوازنة وتكشف عن مشهد شاعري لقصة فتاة تنتظر قطار الحياة الهانئة ليعبر قرب نافذتها.
وتتسم المجموعة بشكل عام بمسحة حزن واضح، جعل من كل قصة من هذه القصص شاهدا قويا على أن هناك معاناة يعيشها الإنسان حتى وإن اختلفت الكثير من الصور، فلا فرق لديه في حزن إنسان كادح في مزرعته، أو راعٍ خلف شياهه، أو رجل من المدن ينحني لطلب رزقه، لكن الكاتب يبرع في توظيفها بشكل مثمر، يجعلك لا تترك هذه القصص حتى تكمل قراءتها والخروج برؤية متميزة عن هذه الإضمامة التي جمعت الكثير من الصور الإنسانية المعبرة والجديرة بتأملها.
** ** **
إشارة:
- عتمة (قصص قصيرة)
- عبدالجليل الحافظ
- نادي الحدود الشمالية الأدبي 1435هـ - 2014م
- تقع المجموعة في نحو(64صفحة) من القطع المتوسط