يختص البشر بخاصية فرضتها الطبيعة، وهي أنهم كائنات اجتماعية، ورغم أن هذه الخاصية تدل على الاجتماع، إلا أنها في الحقيقة من أكبر المحفزات على الاختلاف بين بني الإنسان، فكل إنسان يسعى أن يتميّز ويختلف في مجتمعه.. يسعى ليكون علامة فارقة بارزة، فهو دائما يعمل للملكية الخاصة، ويجتهد في الاختراعات والأفكار المبتكرة، رغبة في تحقيق أعلى قيمة ومكانة اجتماعيتين بين الناس. ومن هنا نصل إلى مربط الفرس، وهو أن (المنافسات) التي تدور بين أفراد المجتمعات، هي العامل الكبير المؤثر في مسيرتها، أي أن التنافس الهادف للتميّز هو -في قناعتي- الذي يحرك المجتمع ويصعد به في درجات التقدم، وينقله دائما من حال إلى حال.
لقد أعجبتني كثيرًا وأقنعتني جدًا هذه النقطة التي تكررت عند كثير من المهتمين، أعني نقطة (المنافسات) ودورها في تحولات المجتمعات، وفي تقدمها ورقيها. والحقيقة أن الأمر لم يكن كذلك في بدايات التنافس الإنساني، فقد كان الإنسان في المجتمعات البدائية الأولى يتصارع مع أخيه الإنسان بوحشية، ويبحث عن الانتصار والتفوق عليه بكل الأساليب اللاأخلاقية الموغلة في الاعتداء والضرر.
ولكن الحال تغير مع تقدم الزمن، وأصبحت القواعد الأخلاقية والقانونية بمختلف أشكالها هي الحاكمة لهذا التنافس، الذي استمر ولكن على قواعد التوافق والتعايش والنظام والمدنية.
ولابد أن نشير هنا إلى أن هذا التحوّل والتغيّر ليس محصورًا في موضوع التنافس، بل شاملا لكل ما يدخل في انتقال الإنسان من (الطبيعة) إلى (الثقافة). فالإنسان كما نعلم يشترك مع بقية الحيوانات في كثير من النواحي البيولوجية والفسيولوجية والنيرولوجية؛ ولكنه تميز عنها بالثقافة، وكلما رجحت كفة ثقافته على كفة طبيعته الحيوانية ارتقى في سلالم الحضارة والمجد، والعكس صحيح أيضًا بلا شك.
وأريد التوقف هنا لطرح سؤال يلحُّ عليَّ، له علاقة مباشرة وطيدة بموضعنا (فلسفة التاريخ) وهو: هل الإنسان عندما يتقدم ويتحضر ويقطع
الأشواط الطويلة في الانتقال من طبيعته الحيوانية إلى رقيه الثقافي. هل هو فعلا يتغيّر، أي هل يتخلى عن غرائزه الوحشية الحيوانية؟!
وأفضل مدخل للإجابة -في نظري- هو الحروب، وخاصة العالمية الكبرى منها، ولو أخذنا (الحرب العالمية الثانية كمثال) لاتضح لنا شيء من الجواب من خلال رؤية «فرويد»، حيث استشهد بما جرى في هذه الحرب على نظرته التي يكررها دائمًا بعد صياغات، وهي أن الإنسان كالذئب في تعامله مع أخيه الإنسان، فهو وحش كاسر مهما عاش تحت ستر القيم الزائفة، أو القوى الأخلاقية والقانونية الرادعة له، التي قد تمنع هذه العدوانية من الانتشار والظهور العلني لأوقات طويلة؛ ولكنها -أي وحشيته وعدوانيته- لا بد أن تظهر غالبًا، وبصورة مفاجئة في أشكال وأوقات مختلفة، وبتلقائية عجيبة إذا أطلنا النظر والتأمل والتدقيق، نازعة عن هذا الوحش قناعه الذي يخفي همجيته المتأصلة فيه.
ففي الحرب العالمية الثانية، التي يسميها فرويد «الحرب الكونية الأخيرة» ما يؤكد ذلك على مستوى الدول والأفراد في نظره، وبهذا يصل إلى نتيجة مفادها أن نزعة العدوان الخفية، التي لا نستطيع اكتشافها بسهولة فينا وفي الآخرين، هي السبب الأبرز الأول في تردّي العلاقة بين الذات والآخر، وهي السبب الرئيسي أيضا بناء على ذلك، في الأضرار الكبيرة التي تتكبدها الحضارة، كما روى لنا التاريخ البشري، من خلال الأحقاد الدفينة التي حملها ويحملها الأفراد لبعضهم دائمًا، وهذا ما يهدد المجتمعات بكثير من الأخطار باستمرار.
ولو أدرنا دفة الموضوع باتجاه آخر، فسنجد جملة تتكرر علينا منذ أن كنا صغارًا في المدارس، وهي قولهم: «تنتهي حرية الإنسان حين تبدأ حرية الآخرين»، وهي مهمة في موضوعنا، إذ إن رغبة الإنسان الجامحة في إثبات حريته ستجعل أفراد المجتمع يتصادمون ببعضهم فتحدث الفوضى والمشاكل، ولذلك تبرز هنا الحاجة للقانون.
يسألني الكثيرون دائمًا: تطالب أنت وأمثالك دائمًا بالحرية، فما هي هذه الحرية التي تنادون بها، وهل الحرية عندكم مطلقة بلا حدود ولا ضوابط؟!
فأجيب غالبًا بإجابات من قبيل: نعم، نطالب بحرية الإنسان في كل شيء، أي أن يعيش كل إنسان حرًا في قوله وفعله ومعتقده وسلوكياته وفي كل شيء.. ولكن هذا لا يعني الفوضى كما يفهم البعض، ولذلك أضيف: نطالب بكل ذلك بشرط واحد فقط، وهو أن لا يعتدي أيُّ إنسان على غيره من الناس، بأي شكل من أشكال الإساءة، وإذا حصل ما يظنه الإنسان اعتداءً عليه، فالمرجع القانون والحكم له وحده، وليس لكل من هب ودب؛ ولذلك لابد أن يكون القانون واضحًا صريحًا حازمًا مقنعًا للناس..ولذلك اهتم «كانط» وغيره من الفلاسفة بموضوع (العدالة العامة) وبالقانون، الذي بلغ الاهتمام به حدًا كبيرًا في الفلسفة ، ليس في تنظيم حريات الأفراد فحسب، بل في تنظيم العلاقات الدولية أيضًا، فالقانون هو الذي يجب أن يقول الكلمة الفصل في كل الخلافات الفردية، والجماعية ومنها الدولية، وهو الذي يجب أن يكون مسؤولاً عن تنظيم علاقات الدول ببعضها عن طريق هيئة مختصة تخضع لها الدول في تنظيم حدود حرياتها والفصل في منازعاتها، كما هو الحال بالضبط مع «الدساتير»، التي تنظم الوحدات الداخلية للمجتمعات.
الأمم تتأثر ببعضها.. هذا الكلام كنا نقوله سابقاً قبل هذه الثورة التقنية الهائلة. أما اليوم، فلا شك أن هذا التأثر تضاعف أضعافًا لا نهاية لها، فقد أصبح العالم كما يقال قرية صغيرة واحدة، وبناء عليه نصل إلى نتيجة مفادها: أن التغيرات المستقبلية التي ستؤثر في تاريخ البشرية، ستكون باتجاه واحد؛ لأن العالم أصبح اليوم كقرية واحدة إلى حدٍ ما.
وستحكم هذا المسار التاريخي المستقبلي عدة عوامل، تدندن كلّها على أوتار التطلعات البشرية العامة المشتركة، فليس هناك مجتمعات معزولة اليوم عن المجتمع الإنساني الكبير، الذي ندور كلنا -كشعوب وأمم وأفراد- في فلكه الواسع، إلا ما ندر من الحالات الاجتماعية الشاذة، والشاذ لا حكم له كما يقال.
إن هذه التطلعات البشرية الكبرى التي ترابطت ببعضها بشدة اليوم، تثبت وتعزز الجانب الإيماني المتمثل في وجود غايات وحكم وعلل كبرى، أوجدها خالقنا العظيم مهندس هذا الكون الضخم. ومن هنا، انبثقت فكرة التاريخ الإنساني العام، الذي بدأتْ تشترك في رسم خيوطه كلُّ مجتمعات العالم اليوم.
وهذا ينقلني إلى فكرة أخرى ذات علاقة، كنتُ قد تناولتها وكتبتُ عنها سابقًا، وهي (الفكرانية المشتركة) التي يشهد عصرنا الحديث إرهاصات قيام كيانها، أي كيان (الأيديولوجية الإنسانية الواحدة) المكوَّنة من خليطٍ ضخمٍ من الصالح للتطبيق من أفكار ومعتقدات الشعوب.
نعم، لن يتفق الجميع على كلِّ شيء، فهذا شبه محال، ولاشك أن التوجهات الإرهابية والحركات اللاإنسانية أوجدت جيشًا من المتعاطفين معها والمتأثرين بها، ولن يُقضى على الأفكار الظلامية الكارهة للحياة - لن يُقضى عليها تمامًا؛ ولكنهم في النهاية ليسوا إلا قطرات متناثرة في بحر الإنسانية الكبير، الذي أرى أمواجه تدفع سفينته نحو رسم المسار العام المشترك لأمة الإنسان الواحدة، وهو المسار الذي أحلم وأتمنى، بل وأتوقع -وفق كثير من المؤشرات- أنه سيكون مسارًا مشرقاً راقيًا يتصاعد فيه البشر مستقبلا -بمختلف مجتمعاتهم- في درجات التقدم والحضارة والسلام والتعايش والاندماج الثقافي.
وأختم موضوعي بنقطتين أراهما مهمتين، الأولى هي أن (فلسفة التاريخ الإنساني) في النهاية، ليست إلا جزءا من الفلسفة الكبرى العامة لكل ما يحيط بالإنسان في الكون والعالم، وبذلك لا ينبغي أن نحصر الإنسان في بوتقة تاريخه هو فقط، بل يجب النظر إلى التاريخ الإنساني بوصفه تاريخًا مرتبطاً بتواريخ أخرى، فللحيوانات والنباتات وغيرها من الموجودات في هذه الطبيعة تواريخ كثيرة، تعاقبت تعاقبًا ضخمًا، وتفاعلتْ وساهمتْ مع بعضها في وصولنا ومن معنا وما معنا من الموجودات الحيّة وغير الحية إلى الحالة العامة الراهنة.
والنقطة الثانية هي أن هناك أشكالا مختلفة لتفسير التاريخ، أبرزها ثلاثة، الأول هو التفسير الروائي القديم المرتبط بالأدب، وهذا ظاهر من اسمه (روائي) فقد نظر الأوائل -وخاصة الرومان- إلى هذه الطريقة في تفسير التاريخ نظرة فنية، أي أنه يقوم على فن الرواية، بكل ما تُعرف به الرواية من خصائص ومتعلقات.. وبناء عليه: نجد في هذا النوع من التفسير التاريخي كثيرًا من الخيالات والحكايات والحوارات والزخرفات والمبالغات والشخصيات المصطنعة، فالمؤرخون القدامى مثل «هيرودوت» وغيره، اهتموا بإعادة إنتاج القصص والوقائع التي سمعوها، دون تركيز على دقة ما ورد فيها، والسبب هو أن مصدرهم هو ما بقي في ذاكرات الناس -وخاصة كبار السن- من الذكريات، فكان عملهم يقوم على إفادات الشهود الذين عاصروا الأحداث أو من سمع منهم. ولذلك نجد -مثلا- الدقة غائبة في الكتب الأولى التي تناولت تاريخ روما وأثينا.
والثاني هو التفسير اللاهوتي للتاريخ: وخلاصته أنه تفسير ارتبط كثيرًا بالإلهيات، وخاصة في السردين اليوناني والروماني، الذين يظهران الله كثيرا في السلوكيات والممارسات الإنسانية، ولذلك لا تختلف أساليب كتب هذا المفهوم التاريخي اللاهوتي عن أساليب بعض الكتب الدينية، وخاصة اليهودية.. حيث نلاحظ فيها خلطاً بين الأفعال الإنسانية والأفعال الإلهية، وهو خلط مشابه للخلط الحاصل اليوم في كثير من المجتمعات، التي يتدخل الكهنوت الديني في تفاصل حياة أفرادها، من حيث كيفية الأكل والنوم والشرب والجماع وما شابه ذلك من الممارسات اليومية. وهذا طبيعي في الحقيقة، فمع ان تصار الأديان..
.فمع انتصار الأديان وخاصة المسيحية، ظهرتْ تفسيرات وتوجيهات لاهوتية لكل شيء وفي كل شيء، وامتد هذا مع التراكم شيئاً فشيئاً حتى سيطر على كل شيء، وبالذات في أوروبا، حيث بقيتْ الروح اللاهوتية هي المسيطرة سياسيًا وفلسفيًا وتاريخيًا، خاصة من القرن الخامس إلى عصر بيكون و ديكارت وأمثالهما، حيث نجد غالب الكتابات التاريخية في هذه المرحلة الطويلة متأثرة بالدين وسلطة القسيسين.
والثالث هو التفسير الفلسفي البحت للتاريخ: وخلاصته أنه يبعد -في كثير من الأحيان- دور الصدف من جهة، والإرادة العليا من جهة أخرى، فلا مكان فيه إلا لاجتهادات العقل والعلم في تحديد الظروف والعوامل التي يخضع لها مسار التاريخ بكل ما فيه من وقائع، ومنه نتجتْ تصورات الفلاسفة العامة لمسار التاريخ، فهو -مثلا- عند فريديرك هيجل التطور نحو المجتمع الحر، وهو في نظر ماركس تحقيق مجتمع خالٍ من الطبقات، وهو عند القديس المسيحي أوغسطينوس تحقيق إرادة الله، وهو عند ابن خلدون وتوينبي وغيرهما يكمن في الدورة الحضارية، ومعناها أن تاريخ البشرية يتكون من سلسلة من المدنيات (الحضارات) كل منها تولد، وتنمو ثم تتداعى وتزول في النهاية.
والحقيقة هي أن التفسير الفلسفي المجرد أعمق بكثير من التفسيرين السابقين الروائي واللاهوتي، ويختلف عنهما في أنه أكثر موضوعية، فكتاباته جادة لا مكان فيها –إلا ما ندر- للأساليب الفنية والمبالغات والزخرفات الموجودة في المفهوم الروائي. كما أن الفلسفة الحرة في التعاطي مع التاريخ أكثر عقلانية من المفهوم اللاهوتي الذي تكثر فيه الأساطير الدينية ذات الصبغات الخارقة وما شابه.
ورغم أن التفسير الفلسفي يبحث عن الأسباب العقلانية المشتركة للأحداث التاريخية، إلا أننا لا نستطيع القطع والتسليم بالصحة المطلقة لأية نتيجة من النتائج الكثيرة التي خرجتْ بها التوجهات المختلفة وفلاسفة التاريخ المتعددين، الذين تتعارض رؤاهم في ذلك؛ فالتاريخ مليء بالأحداث التي كان من الممكن أن لا تحدث، أو أن تحدث بصور أخرى بعيدة تمامًا عن الصور التي حدثت بها.. فلو أن أمة هزمت لم تهزم، أو لو أن دولة انتصرت في معركة لم تنتصر -لسبب أو أسباب قد لا تظهر لنا بوضوح- لتغيّر ربما مجرى التاريخ القديم كلّه. فليس هناك قوانين ثابتة 100% أو مسلمات قطعية لضرورة وقوع الأحداث بآلية معينة دون غيرها.
وقناعتي الشخصية الأخيرة هي أن التفسير التاريخي الأفضل والأدق والأكثر جدية وموضوعية، هو الفلسفي العقلاني المتوازن، الذي يأخذ بعين الاعتبار شيئاً من المفهومين السابقين أيضًا، فلا ينكر احتمالية تأثير دور الصدف في بعض الأحيان، ولا ينكر احتمالية صحة نسبة مما ورد في التفسيرات الروائية، التي قامت على السماع من الناس وما خزّنوه في ذاكراتهم، ولا ينكر -أيضًا- كلَّ ما ورد في كلام الاتجاه اللاهوتي، خاصة إذا كان الفيلسوفُ العقلانيّ المُفسر مؤمناً بخالقنا وربنا العظيم وأقداره.
وائل القاسم - الرياض