تشكل المعرفة قنطرة مهمة لتوثيق عرى العلاقات بين البشر، وللمعرفة أبعاد كما لها طرق فهي قد تحصل بالمطالعة والقراءة كما تحصل بمشاهدة بعض البرامج أو الاستماع لأخرى، وهي تنجم أيضاً بدرجة أكثر فاعلية عبر السياحة والسفر والتواصل الإِنساني المباشر حيث يتم التقارب وتلاقح الأفكار وتبادل المعلومات والخبرات بشكل حيوي وفاعل.
فلدى زيارة المرء مكانا والتعرف على ناسه عن كثب ووقوفه على ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم بعد أن يقوموا بتعريفه بما تضم أرضهم من تراث إِنساني وما يمتلكون من معالم حضارية، لن يخرج فقط بحصيلة معلوماتية تثري وتعزز الجانب المعرفي والفكري لديه وهو ما قد يغنيه عن قراءة كتب حولها لكنه سيخرج كذلك برصيد جيد من العلاقات الأخوية والإِنسانية التي تشبع لديه الجانب النفسي والاجتماعي المهم كما في قوله تعالى «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».
ونحن نعيش بفضل الله في وطن يمتاز باتساعه، وغنى مناطقه بالتنوع الحضاري والثقافي، وبالكثير من معالم التراث الإسلامي والإِنساني، والعادات والتقاليد. الأمر الذي يبرز أهمية التواصل الواقعي الفعال بين أبناء هذا الوطن الغالي لتمتين وتوثيق عرى الإخوة فيما بينهم وتجسير العلاقات وزيادة عمق معرفة كل منهما بالآخر، وتبادل المعارف والخبرات الإِنسانية ولوقوف بعضهم على عادات وتراث بعض.
وهو الأمر ذاته الذي يخدم الوطن ويعمق من ارتباط أبنائه به ويساعد على بنائه وتنشيط قطاع السياحة الداخلية فيه، كما يوفر ضمانا للمزيد من الحماية له من الأعداء لأن القلوب المتآلفة والنفوس المتراضية يصعب اختراقها وتأليبها.
وقد وقفت مؤخرا بنفسي على تجربة حضارية في هذا المجال أجدها تستحق الإشادة والدعم والاهتمام وتحويلها من مبادرة أطلقها أفراد مشكورين لعمل مؤسساتي منظم يخدم الوطن بشكل أوسع ويكون أكثر تأثيرا.
حيث تلقيت دعوة كريمة لزيارة أهلنا في مكة مع مجموعة من الأخوة والأخوات من أبناء الشرقية ومثقفيها قمنا خلالها بزيارة مكة المكرمة وأداء العمرة والتعرف على معالمها الإسلامية والتاريخية عبر مبادرة اتفق على تسميتها بـ» لتعارفوا»، وقد اتسمت أجواء الزيارة بالطابع المعرفي الإِنساني الأسري الحميم، الذي يجعلك تشعر وكأنك في ضيافة أهلك وذويك الشغوفين باطلاعك على عاداتهم الجميلة في المأكل والمشرب والملبس والفنون، كما هم حريصون أيضاً بشغف مماثل لا يمكن أن تخطئه على تعريفك بما تضم مدينتهم من آثار ومواقع إسلامية وتاريخية يتمنى كل مسلم أن تتاح له فرصة التعرف عليها.
لم تكن تلك زيارة أولى لمدينة لم تتح لي فرصة زيارتها من قبل من مدن ربوع وطني وإنما زيارة إلى مكة المكرمة التي ترددت عليها أثناء تأدية فريضة الحج والعمرة، ورغم ذلك فقد شعرت بأنني عبر هذه الزيارة فقط عرفت مكة كما لم أعرفها من قبل، وتعرفت على ناسها الواعين والمثقفين وتولد لديّ شعور بالمودة تجاههم.
إذ إن زياراتي السابقة لمكة اقتصرت على تأدية فريضتي الحج والعمرة والاحتكاك في نطاق ضيق ببعض الباعة في السوق أثناء اقتناء بعض الهدايا، وهو أمر لا يمكنك من المعرفة الحقيقية التي قد تتطلع إليها لتتعرف بصدق على سكان هذه المدينة، وثقافتهم الغنية.
ورغم أن هذه الزيارة كانت قصيرة ولم تتجاوز سوى يومين غير أنها كانت ثرية ومتعددة الجوانب والأبعاد وعلى جميع المستويات الروحية حيث أمضينا اليوم الأول في أداء العمرة، والوطنية الاجتماعية حيث التقى أبناء عدد من المدن في الوطن الواحد: مكة، جدة، الطائف، الدمام، الأحساء القطيف في أمسية ثقافية، إضافة إلى البعد المعرفي المهم، إِذْ كرس نهار اليوم الثاني وجزءا من مسائه لجولة سياحية ثقافية طافت بنا على الكثير من آثار مكة برفقة أبنائها الملمين والمهتمين بآثارها، وعلى رأسهم الدكتور سمير برقة الذي بدا مفعم بطاقة هائلة ورغبة كبيرة في تعريفنا بأدق تفاصيل معالم مكة جعلت من هذه الجولة السياحية متعة معرفية، ووثقت علاقتنا أكثر بكل شبر تعرفنا عليه من أرض مكة وشعابها.
حتى بلغ عدد ما وقفنا عليه في مكة في ساعات ربما لم تتجاوز التسع نحو 40 موقعا تاريخيا منها: مسجد البيعة الذي يقع في السفح الجنوبي لجبل ثبير، مسجد الجن في شارع المعلاة، مسجد الإجابة، درب زبيدة، جبل خندمة، جبل الرحمة، بئر طوى حيث عسكر المسلمين قبل فتح مكة، ومعرض عمارة الحرمين الشريفين وما يضم بين جدرانه من نفائس وغيره، وختمت الزيارة بالأمسية الثقافية التي أقيمت في منزل الشيخ أجواد الفاسي، التقى خلالها مثقفي نحو ست من مدن المملكة بمختلف اهتماماتهم الثقافية والاجتماعية والفنية والإعلامية وألقيت القصائد المعبرة والكلمات ابتهاجا باللقاء الثقافي الأخوي الذي جمع مختلف الأطياف.
ما يؤكد الحاجة الماسة لخلق فرص عديدة مماثلة ومستمرة للتزاور المتبادل والالتقاء والتقارب المعرفي الحضاري بين أبناء الوطن بمختلف مكوناته الاجتماعية تقوم على تبنيه مؤسساتنا بخاصة الثقافية منها، وهو ما سيعزز إلى جانب الحس المعرفي والثقافي الشعور المتبادل بالأمان والانتماء لكل شبر من هذا الوطن الغالي.
وكما جاء في الأمسية التي قيل فيها ما يستحق التأمل، مثل كلمة الشيخ أجواد الفاسي، والقصيدة الجميلة والمعبرة للشاعرة بديعة كشغري (الربع الخالي)، بخطابها المفعم بالصدق التي قد نضع لها عناوين ومطالع عدة بعدد أسماء مدن وطننا وقراه لنردد معها:
والربع الخالي من جغرافيتي/ من قدري.. من وطني.. من تاريخي لن يصبح أرضا جرداء/ وسأزرعه وردا فواحا بالأنوار/ لأرى من طرح بساتيني ألف نهار.. ونهار..!
شمس علي - الدمام