شاعرية غرم الله الصقاعي، لست في وارد عرضها، ووضعها على المحك لقراءة التجربة، فتلك مهمة النقاد ومن تذوق غيري عذوبة شعره وجزالة مفردته، لكني حتما سألتصق بدفء إنسانيته التي عرفتها عبر عقود، وتنوعت في مناحيها لدرجة أني لا أستطع ترتيب أفكاري، ولا التقاط سمة مميزة واحدة لشخصيته، فالتنوع والثراء والتدفق المبهج يربكني، فقد عرفت غرم في سن مبكرة جداً، ربما تقترب من أربعين عاماً، فقد عدت من الرياض في إجازة صيفية إلى منطقة الباحة، وصادف وجود حفلة زفاف بنت من قبيلتي (الرهوة) إلى شاب في قبيلته المجاوره لنا (بني كبير)، والقبيلتان تشكلان خمس قبائل غامد، وتتجاور في المكان وتتقاسم فيض الماء ومواطن المراعي، وكما ترتبط بعلاقات مصاهرة بين أفرادها، فإن هناك صراعات وحروباً بينهما قديمة ومتوارثة، ما تزال حينها تخبئ ناراً تحت رمادها، وتفرض التقاليد المجتمعية مرافقة العروس، وتقديم التهنئة والمباركة وحضور حفل العرضة (اللعب الشعبي)، وبادر عقلاء كل من القبيلتين لتفادي أي إشكالية، قد تحول الفرح في مجتمع مسلح حينها إلى ما لا يحمد عقباه، فنادراً تجد رجلاً بلا حزام (جنبيه) أو بسلاح ناري على كتفه، لئلا يلحق به عيب حسب التقاليد القبلية، فانتدبوا شاعراً كبيراً (أبو جعيدي) ومعروفاً من خارج القبيلتين لإحياء الفرح، وحينما تواجهت الصفوف ودق الزير وارتفع صوت الشاعر، كان هناك طفل لم يبلغ الحادية عشرة من عمره، يقف في مواجهة الصفوف يلقي شعره، ويستخرج جمر السنين الخامدة بين رمادها، ليستثير أفراد قبيلتي الذين شرعوا في الانحياز خارج الميدان، ولا يعلم إلا الله كيف ستكون نهاية هذا الفرز المجتمعي، ولكن لأن للشعر الرفيع حكمته، بادر الشاعر الكبير المنتدب، ليخمد ثورة منتظرة ببيت شعر من قصيدة، يصف فيها الشاعر الصغير بالعود الأخضر، لا بد له أن يدخن إذا وضع في النار، ولم يكن هذا الشاعر الصغير الذي تجرأ في هذا الموقف على الظهور، وبموهبة مبكرة غير غرم الله الصقاعي..
معرفة بعيدة جمعتني بغرم الله الصقاعي، لم تكن مباشرة وشخصية لكنها سمحت لي، أطلق عليه بعد هذه الأمسية، مسمى الشاعر (الفتنة) فنغرق في حكايات متشعبة، لكنه أبداً لم يتنازل عن موقفه ذلك، ولم نلتق بعد تلك الحادثة لعقود أيضاً، فكنت أعيش وأمارس حياتي في الرياض، وبقي غرم الله في قريته وبين أبناء قبيلته، شاعراً ومعلماً ومديراً لمدرستها و(عريفة) منصب اجتماعي قيادي، يقوم ببعض النشاطات الإنسانية عبر جميعه خيرية يرأسها، فكان نصير الفقراء والمعدمين واليتامى، ولن تكفي ولن تفي سطوري المتواضعة هنا، لإيفاء حقه وسرد ما أعرف من حكايات، شهدتها له في هذا الجانب الإنساني الخيري، وسأكتفي بآخر ما شهدته وحضرت تفاصيله، فقد كنت في العام الماضي في زيارة الباحة أوائل أيام رمضان المباركـ، فعرف القطب الثالث لنا الدكتور علي الرباعي بوجودي، وأصر أن يضمنا مجلس إفطار، نحن بعض من مثقفي منطقة الباحة وأساتذة الجامعة في منزله، وبطبيعة الحال يفترض أن يكون غرم الله الصقاعي في مقدمة الحضور، وقد كلفه الدكتور الرباعي ليكون رفيقي بحكم قربنا المكاني من بعض، اتصلت عليه قبل أذان المغرب بدقائق لعله يمر عليه، فقد تأخرنا ولأني بلا سيارة ففوجئت به بلا مقدمات، يقول:
- لست سائقاً لديك أنت وعلي الرباعي!
كان الدكتور الرباعي أقل مني غضباً، فهما روح واحدة في جسدين متفرقين، ومنعني غضبي أن أرد على هاتفه المتوالي أربعة أيام، ففوجئت به يقف في وسط بيتي، وينهرني بطريقة لا يفعلها إلا غرم الله الصقاعي، قائلاً:
قم نخرج يا رخمه! -
لم يكن بيدي رفض طلبه، وقد أصر وإذا فعل فلا مناص من تنفيذ رغبته، وبادر بإبلاغ عائلتي بغيابي معه، وهم يعرفون مكانته الرفيعة عندي، ويثقون بأني معه سأصبح في أفضل حالاتي، ولما استجبت لدعوته على مضض، فما زال في النفس شيء من بقايا الأمس، قال معاتباً لينبهني دون أن يعتذر مباشرة :
- يا رخمه (!) هل تظن أني أحبك أنت والرباعي أكثر من زوجتي، لأفطر معكما في أول يومٍ في رمضان، واتركها وحيدة!؟
في طريقنا إلى بيته عبر قريته إلى استراحة شهيرة له، يستقبل فيها ضيوفه من المنطقة وخارجها، ويفيض منها كرمه الذي يعدُ مضرباً للمثل، وفي بيته حيث يطيب لي السهر كل صيف، عرفت وجوهاً كثيرة بدا لي أنها لا تقل عني ارتباطاً به، وجدنا في طريقنا رجلاً عجوزاً، ربما يتجاوز الثمانين من عمره بلا مبالغة، يعبر الطريق متكئاً على عصاه، فتوقف غرم ولم يكن مفاجأة لي، فحسبت أنه ربما ينقله إلى مكان آخر، أو يقضي له حاجة كالعادة، لكن ما حدث بينهما كان المفاجأة بكل فصولها، فبمجرد ما شاهده الرجل أنهال عليه بدعاء سيء، جعل شعر رأسي ينتصب، وأصرخ في وجهه لنمضي، لكنه واصل الحوار مع الرجل العجوز بلا فائدة..
كان الرجل يقبض ثلاثة آلاف من جمعية خيرية أخرى، وكان المبلغ أكبر مما تقدم الجمعية الخيرية التي يرأسها غرم الله، ويسقط حق الرجل إذا قبض من جمعيتين في آن واحد، فكان غرم يسمح له استلام المبلغ الأكبر من الجمعية الأخرى، ويدفع له من حر ماله مبلغاً آخر، بدون أن يسجل اسمه في كشوف جمعيته لئلا يسقط بفعل النظام، لكن الرجل العجوز لم يكن يدري!
ارتبطت بغرم الله مباشرة قبل عقدين من الزمن تقريباً، فلا يمر يوم بدون تواصل واتصالات، نتناول فيها أوجه الحياة الثقافية والمجتمعية، ولم أقم أمسية في كل مدن الجنوب والمنطقة الغربية، بدءاً من أبها وجيزان والباحة وجدة ولا يكون غرم الله في مقدمة الحضور، ولا بد لي من أمسية أدبية في كل صيف في الباحة، حتماً سيكون ترتيبها وإدارتها خاضعة لغرم الله ، وكل الأمسيات الأدبية في الباحة إذا لم يكن يديرها، فالمؤكد أنه سيكون من أبرز المداخلين فيها.
شهدت ولادة كل نصوصه الشعرية، ووقفت على محطات تعديلات عليها، وبالذات القصيدة الجميلة له في مهرجان الجنادرية، قصيدة واحدة فلتت من هذه الوصاية، تشكل نزعة التمرد الإيجابي الخفي في شخصيته، فقد قضيت أياماً مريضا في المستشفى في أحد المواسم، فجاء هو والدكتور علي الرباعي لزيارتي، وأصرا على خروجي على مسؤوليتهما من المستشفى، وسخرا من رفض الطبيب وتحذيراته، وفوق هذا حجز لي درجة أولى في نفس اليوم لألحق بأهلي في الرياض وقد كان، لكني فوجئت بعد أيام بقصيدة منشورة ومهداة إلي، تحكي بعض التفاصيل، وتكشف عن مخبئها ووسمها بالعاشقة:
- الإهداء للروائي أحمد الدويحي
هذا جزاءُ الذي أصغى لعاشقةٍ
عبر الهواتف في بوابة السحر
أفنى الرصيد ولم يظفر بحاجته
كجالب التمر من صبيا إلى هجر
أودى بخَافقه في كفِها ولهاً
فخلفته قتيلَ الشكِ والسهر
يغني الليلَ لحناً من مصيبته
شتانَ ما بين لحن الموتِ والظفر
ريانة العودِ كادت من ملاحَتها
في عينه أن تضاهي صورة القمر
تعلقته على مكر وكان لها
خلا وفيا وما زارت ولم يزر
أرادها لهواه غيمة وغدا
يعللُ النفسَ بالآمال والمطر
وأنشد الدهر للعشاق تذكرةً
الحبُ يا دهر لم يبق ولم يذر
نضارة العمر يوما في معيتها
وآخرُ العمر يوم البعدِ والكدر
واجدب العمرُ والأشواق ما فتئت
تغازلُ الشيبَ ما خافت من الكبر
يا سيد العشق لا تبخل بقافيةٍ
تسطرُ الشوقَ أو تغني عن الخبر
يا سيد العشق إن الحب مدرسة
من جانب الحب لم يُخلق من البشر
فاعشق وعف وانس الجرح مبتسما
إن السحابة لا تخشى من الضجر
واستقبل العمرَ بالأحلام أنسجها
حرفا من الوجد أو صوتا من الوتر
لا زلت يا سيدي للعشق ساقية
يؤمها الناسُ ما ملوا من السفر
لست أعرف لما أرسلت له وحدة، البروفة النهائية لروايتي القادمة ( منابت العشق ) دون سواه ؟، كنت أعرف أنه لن يجد الوقت الكافي لقراءتها في رحلته الأخيرة، وقد احتضنته تونس الخضراء بقدر عشقه لها، وتنقل مع رفاقه من المثقفين بين مدنها وريفها، رحل من جنوبها الذي عوضه عن جنوبه الأثير إلى شمالها، المثقفون يلتفون حوله بمودة، ظهرت في حجم وكثافة رثائهم له، وكأنما اكتشفوا أن لدينا شيئاً نباهي به غير النفط، فبادلهم حباً بحب وهو القائل لهم:
يا تونس الخضراء جئت وفي دمي
عشق لأرضك والغرام مباح
فيك ابتدا حلم الربيع وأزهرت
في كل أرض بالشذى أرواح!
أرسلت له روايتي، وأنا أعرف بأني سأتلقى شتائم وملاحظات، انتظرت ولم يقل لي شيئاً، ولم يشعرني أنه قرأها، ولكنه فاجأني بتقديم ورقة عن (محلية) الرواية، جاء ذلك في ملتقى روائي في تونس، فوجدتها فرصة لمناكفته ومطالبته بإرسال ورقته، ولكنه كالعادة يضحك حينما يريد أن يستفزني، قائلا
- هل تريد أن تمسك عليه أنت وأمثالك شيئاً.. لقد كانت مداخلتي شفوية، ومسحت بكم البلاط!
لقد اكتشفت أنه قرأها، ودون لي بعض العتب، في القلب كثير يا غرم وفي الذاكرة شيئاً من بعضك، ولكن نمّ يا صديقي قرير العين وليفعل الله بنا ما يريد!
- الرياض