* العمل القصصي القصير جدا، هو عمل مكثف ومفارق معا، لأنه يلوذ بالجمل القصيرة المتشحة بعمق سردي.
* المدخل القصصي المفارق يعطينا بداهة رؤية صراعية تريد الكاتبة أن تقلها إلينا حيث الصراع بين الراهن المتجدد والتقليدي.
* تحتشد القصص بدلالات الغياب، والهروب من الواقع، بل والموت والانتحار كأن القاصة تبحث في نهايات المصائر.
* القاصة تحتاج إلى توسيع مجالات المعرفة السردية والفسلفية والرمزية في مثل هذا النمط القصصي.
تنهمك الكاتبة الدكتورة زكية العتيبي في مجموعتها:» أنثى الغمام» التي تتضمن جملة من النصوص القصصية القصيرة جدا، تنهمك في رصد العلاقات الوجدانية في عالم قوامه التأمل والسؤال، وفي أفق يسعى لقراءة الحدث اليومي الذي يشكل علاقات محددة تأخذ من القيم الإنسانية وتحولاتها خلفية إدراكية لها دلالاتها ووعيها المنبثق في المضامين التي تسعى القصص إلى تقديمها للقارىء كرسالة جمالية في الجوهر.
إن العمل القصصي القصير جدا، هو عمل مكثف ومفارق معا، لأنه – في بعده الشكلي- يلوذ بالجمل القصيرة المتشحة بعمق سردي كما ينأى عن الاستطرادات، وذكر أسماء الشخصيات، والتخلي عن زمكانية الخطاب القصصي أحيانا، فيما يقدم نقلاته المفارقة التي تشكل عنصر الصدمة في نهاية القصة، فيما تقلنا إلى أجوائها عبر تقنياتها السردية المكثفة .
كسر التقليدي:
تستهل الكاتبة مجموعتها بقصة يحملها عنوان المجموعة :» أنثى الغمام» في القراءة الأولى قد نخرج بشكل دلالي إلى أن القصة تسعى للخروج عن النمط التقليدي وكسر ما هو معهود. القصة تستهل بجملة صادمة بالأساس ، تقول:» كانت تلهث جريا إلى مشارف التحنيط دون علمها» دالة التحنيط دالة صادمة، هي دالة تريد القاصة أن تفارق بها هذا الوعي الذي يتعامل مع الأشياء، وينظر إلى العالم نظرة تقليدية، كأن ما يحيط بها :» محنط» ومجمد، لا يحرك سكونية الأشياء، فكرا أو سؤالا أو دلالة، وهنا تكمل:
«خرجتْ من مهب التقليدية تتراكض معها أنوثة عذرية تشيّد من حطام الذاكرة عالما لن تطأه قدماها ! ناضلتْ كالأخريات، إلا أنّ نضالها انتهى بانهيار تحت أنقاض العرف» / ص 7
الأنوثة في مواجهة التقليد، رؤية المرأة الخصوصية للذات والعالم تريد أن تكسر حدود التقليد، أن ترى العالم بعيونها هي، لا بعيون الآخرين، وهو المضمون الذي تركز عليه القصة. بيد أن هذه المواجهة تنتهي بالانكسار، حيث ينتهي البحث عن الخصوصية الأنثوية بالانهيار تحت أنقاض العرف.
إن هذا المدخل القصصي المفارق يعطينا بداهة رؤية صراعية تريد الكاتبة أن تقلها إلينا، بشكل أو بآخر، حيث الصراع بين الذات والعالم، والصراع بين الأنا والآخر، والصراع بين الراهن المتجدد والتقليدي. وفي ظل هذا الوعي فإنها تعبر عن رؤيتها للآخر عبر جملة من النصوص منها:» احتراف، ميلاد الألم، رجل، خيبة، الغريب، التمثال، انسلاخ» فيما تعبر عن قضايا الذات ، وقضايا المرأة المتعددة التي تبحث عن استقلاليتها، ورؤاها الخاصة للواقع والعالم. وهي القصص المهيمنة على المجموعة.
مفارقات الذات/ الآخر:
في :» احتراف» تومىء الكاتبة زكية العتيبي بشكل رمزي إلى محاولات الرجل تدليس التاريخ سواء عاما أم شخصيا، وفي «رجل» تنتقد عدم الصدق الوجداني موجهة خطابها للآخر بشكل مباشر عبر القصة :» سنوات مضت وأنت الحاضر رغم الغياب، سنوات مضت وأنا لم أشرع أبواب قلبي لسواك. بقيت، وتلاشى كل من عداك. أما أنت . فاخترت أن تعيش حياتك التي تحب بعيدا عني، وكأنني ما كنت يوما ما في حياتك. هل كنت سيئة إلى الحد الذي يجعلك تختار الرحيل بلا رجعة؟ أين كلماتك التي جعلت مني ملكة؟ هل كانت هي الأخرى هراء؟ « ص.ص 13/14
وتحتشد القصص بدلالات الغياب، والهروب من الواقع، بل والموت والانتحار كأن القاصة تبحث في نهايات المصائر، في أحوال أكثر تأملا وأكثر بعدا وتساؤلا في لغة ترقى أحيانا إلى يقينها بشكل مأساوي كما في:» انتحار» مثلا: « أحلامي المعتقة، وطموحاتي، كلها مساحات ما خُلقت لي .. كنت أتحايل فيها على اليأس لا أكثر. تجزأتُ جزئين، جزء ما عدت أملكه، وجزء شربتُ المرحتى استعدته، تلونت بما يكفي لأخفي بعض أوجاعي عن الناس، المبالغة في أحلامي، جعلتني أرمي بي بين دهاليز تسكنها جماجم الخواء» . إن انشطار الذات انشطار للوعي، وإن الكاتبة تلمّح وتومىء دائما إلى هذه اللحظات الصادمة المفارقة في معظم قصص المجموعة، وهي لحظات تنتهي بالفقدان، وكسر التفاؤل، والتشاؤم من واقع الأشياء وتحولاتها، وواقع القيم وتبدلاتها خاصة فيما يتعلق بالنفس الإنسانية وأهوائها.
تجليات شكلية:
ترتبط الكثافة والمفارقة والحالة المسرودة بالشكل القصصي، طوله وقصره أحيانا. وقد نوعت الكاتبة في قصصها، ما بين القصير جدا والمتناهي في القصر، حتى إن القصة تتأدى في سطر واحد أحيانا، أو أقل من سطرين، وهنا تصبح القصة أكثر تجريدا، وتتشكل في أفقها المكثف الذي يأتي كومضة أو طلقة سردية تصل لدلالتها بشكل رمزي أو شكل مباشر، وهذه نماذج من أقصر القصص بالمجموعة:
-ظل مكسور:» مازالت تلملم شعث ظلها المتشظي، وهي تتوجع من فقده !»
-عفونة» طفح الكيل ! .. فضاعت رائحة عفن النوايا ولونت كل شيء بالسواد» .
-جبن:» كانت كلماته تتدلى في الفراغ، يتسرب من بين مسامها شعور دائم بالغضب، سرعان ما يبتلعه في حضورهم».
-أحاديث الصمت:» ازدحم بالمشاعر فأغلق فمه، من يومها ذاب قلمه، وأصبح يجيد الثرثرة على الورق» .
قصص في أسطر قليلة جدا، هي قصص لقطات، لمحات، إيماءات، هي قصص تجريد وكثافة ورمز ومفارقة، وهذا ما تقدمه القاصة بجلاء على الرغم من تكرار الأجواء أحيانا.
وإذا كانت اللغة السردية ستعلو أهميتها في مثل هذه النوعية من القصص فإن الكاتبة لجأت إلى تنويع اللغة ما بين لغة مباشرة، وبين لغة أكثر شاعرية وكثافة، بيد أن القاصة تحتاج إلى توسيع مجالات المعرفة السردية والفسلفية والرمزية في مثل هذا النمط القصصي، كما أنها تحتاج إلى توسيع مدارك الوعي لدى الشخصيات أو خلال توجيه الخطابات القصصية لعالم أكثر رحابة ينشغل بما هو إنساني متعدد، وبما هو تاريخي وأسطوري يجازف بتطلعاته وأخيلته لا ليصل للواقع الراهن فحسب بل ليشارف المستقبل وأبنيته المتعددة الطليقة.