ما الأدب وما الثقافة؟ هل الأدب هو الإبداع في منثور القول ومنظومة؟ هل هو امتلاك اللغة بصورة فريدة وبصورة تجذب المتلقي دون خطاب متضمن فيها؟ أو هل هو امتلاك اللغة وامتلاك الرؤيا وامتلاك الخطاب؟
ثم ما علاقة ذلك بموقف الأدب من الحياة ومن الخطابات المتصارعة ومن حياة الأديب نفسه بغض النظر عن المناهج النقدية التي اهتمت بحياة الأدباء وأهملت النص أو اهتمت بالنص وأهملت حياة الأديب.
لقد استطاع أحمد شوقي أن يمتلك قدرة فائقة على تقليد كبار شعراء العصر العباسي وتطورت به تلك الموهبة إلى أن صار كأنه واحد منهم، ثم بدأ بالتعديل في لغته وفي خطابه لتتوافق مع عصره، ولكنه أخطأ حين ظن أن مواكبة العصر وتجديد اللغة وتجديد الخطاب تعني الاهتمام بذكر بعض المخترعات الحديثة أو وصفها أو حتى الإشادة ببعض الجوانب المستحدثة في عصره..
إن التجديد الحقيقي هو تجديد الخطاب الذي يحمله القالب اللغوي قبل تجديد الشكل اللغوي الذي من المفترض أن يؤثر فيه الخطاب وأن يغيره لا العكس، ولذا فإنَّ قيمة أحمد شوقي كأحد كبار شعراء الشعر العربي التقليدي ظهرت حينما تحول من أديب مقلد إلى مثقف.. قيمته حينما انتقل من:
هوان في الذهاب وفي الإياب
أهذا كل شأنك يا عرابي
إلى دنشواي وإلى سلام من صبا بردى وإلى الحرية الحمراء وإلى ركزوا رفاتك.
هنا بدأت حياة الأدب تزهر وبدأ يأخذ الإبداع طعم الحياة ذاتها وبدأت تتضح ملامح عظمة شوقي...
إن الحرص الشديد على الاستيلاء على الأدب كسلاح إيديولوجي أو على الأقل تحييده وإبعاده عن الثقافة هو الترتيب الخطابي الذي استعملته السلطة منذ العصر العباسي حتى أوائل النهضة، لأنّها تريد أدبا لا يحمل هما ولا وجعا ولا نقدا ولا صدقا، بل أدب يهتم بالغزل المحسوس وأدب للحكم المسموح بها في إطار المنظومة الخطابية السائدة... هذا الفصل بين الأدب والخطاب أو الفصل بين الأدب والثقافة شكل قتلا لهما معاً ولم يفلت منه إلا بعض الكبار من الأدباء والكتاب والشعراء كالمتنبي والمعري أو فلتت بعض النصوص القليلة لشعراء آخرين لا يصلون لمستوى تصنيفهم في قائمة الإِنسانيين الكبار...
بيد أن السؤال الذي يثيره هذا الربط بين الأدب والثقافة هو هل لا بد أن يحمل الأدب رسالة التزام كالأدب الشيوعي أو الوجودي أو الإسلامي ؟ وهل يجب أن يعبر الأدب عن إيديولوجيا ما؟
الجواب في نظري أن حمل الأدب رسالة التزامية هو مما يقتله قتلاً؛ فالأدب ليس وسيلة إعلامية لمبادئ خطابية إيديولوجية. بل هو تعبير جميل إبداعي عن الإِنسان لا عن الأيديولوجيا؛ ولذا لا بُدَّ أن يحمل قيما إِنسانية رفيعة ولكنه لا يقصد قصدا إلى حملها وإنما تظهر تلقائيا من خلال تصوير اللحظة ومن خلال إبداع الفكرة ومن خلال تجاوز السائد شكلا وخطابا... حينما أعبر عن هم ما فإنما أعبر عنه لأنه لامسني كإِنسان وليس لأنه يحمل قناعتي الخطابية أو الإيديولوجية أو الثقافية... وهنا يرتفع الأدب إلى أفق عال يجمع فيه بين الأدب والثقافة والإِنسان...
ولا بد من الوصول بعد إلى الإشكال الأعمق من خلال التساؤل الآتي: هل يجب أن تعبر حياة الأديب الخاصة عن المضامين الخطابية لأدبه؟ وهل لها دور في تصنيفه مع الإِنسانيين الكبار أو أنه حر أن يهيم في الأودية التي يريد وأن يقول ما لا يفعل، بمعنى أن موقفه من التنوير على سبيل المثال كقضية إِنسانية قد يتجلى في أدبه في أرقى مراتب الأدب ولكنه في حياته الخاصة وفي مواقفه الخطابية يدعو إلى محاربة التنوير؟
إننا نقع هنا في فضاء مضبب وفي مسألة حساسة جداً، ونعتقد أن حلها يمكن في التفريق بين ناظم أو كاتب الأدب وبين الأديب المثقف، وأميل إلى أن الأديب كسيرة حياتية هو جزء من أدبه وجزء من ثقافته. فالأدباء الكبار لم يصلوا إلى سموهم الأدبي إلا بكونهم حاملين لخطابهم حياة كما حملوه فنا وبمقدار ما يجتمع الأمران في الأديب يقرب من ركب العظماء..
وفي المشهد المحلي أعتقد أن ما تقوم به الأندية الأدبية هو محاولة غير واعية لا تنفك تدعو بممارساتها وبخطابها إلى فصل الأدب عن الثقافة من جهة وفصل الأدب عن حياة الأديب من جهة اخرى؛ ولذا من المقبول أن تجدا أديبا لا يحمل خطابا أو ضد أي خطاب في تلك الأندية، كما تجد بعضا من الأدباء يرون من المستحسن السكوت عن فضيحة انتخابات الأندية الأدبية مثلاً أو تجدهم يدعون إلى القيم ويواربون في تعاملهم القيمي مع تلك الأندية ويصمتون عن الوضع غير الصحيح الذي استمرت وتستمر فيه الأندية منذ سنوات طويلة.. وهنا أعتقد أن المسألة برمتها ترجع إلى قضية فصل الأدب عن الثقافة وعن الخطاب...
وما ينتج عن هذه العلاقة وعن هذا الفهم للأدب والثقافة هو وضع الأدب في أضعف حالاته وفي أقل أقل قيمة له وستكون المحصلة أدبا باهتا فاترا يحمل قضايا وهمية أو قضاي هروبية عن خطابه أو عن واقعه. هذا هو الأدب لدينا.. أدب بلا ثقافة وبلا أدباء..
هل يمكن أن يقوى الأدب وأن يمثل قيمة للناس وللحياة؟
أظن أن قوة الأدب رهينة باستيعاب هذه المعادلة التي تفصل بين الأدب والثقافة التي ترسخ لها الأندية الأدبية.. وأرى أن فئة قليلة من الأدباء المثقفين فهموا هذه المعادلة حق الفهم ووقفوا وقفة جادة ضد الفصل بين الأدب والثقافة، وسوف يصبح لهؤلاء النفر قيمة كبرى بقدر امتلاكهم للغتهم أي توفر الشرط الإبداعي الأولي وبمقدار كشفهم للعلل الثقافية التي تحاصرهم وبمقدار تعبيرهم عن الإنسان بدواخلهم كمجابه للواقع لا كهارب منه.
إن استمرار الفصل بين الأدب والثقافة يسقطهما معا ويؤدي إلى تهاوي المشهد الثقافي كعمارة عتيقة وضعت تحتها أصابع ديناميت بدقة لتسقط دفعة واحدة وكأنها لم تكن.
وأخطر الخطر هو الركون إلى الصمت عما يجب أن يصمت عنه في مسائل الخطاب والثقافة والأدب لأن السكوت يعطي الموجود قوة العادة وكما يقول وليام جيميس «إن الفلاسفة قد لاحظوا أن مجرد التعود على الشيء قد يوجد الشعور بأنه منطقي» والأدب والثقافة هما إثارة للأسئلة وتقويض لحكم العادة المفروض فرضا إلى أفق المنظور أو اللامنظور الإنساني النبيل.
- د. جمعان عبد الكريم - الباحة