عندما ينتفض العالم لصور قتل وحرق الرهائن التي تُسرّبها جماعة داعش الإرهابية إنكاراً وتنديداً بهذا الفعل الوحشي، فذات العالم على الجانب الآخر ينتفض لكن هذه المرة بهجة وتصفيقاً وإعجاباً لفيلم «القناص الأمريكي» والذي رُشّح لأكثر من ست جوائز للأوسكار وحشد ملايين من المشاهدين المعجبين بهذا القناص البطل، وهو الفيلم الذي يعتمد على مذكرات القناص الأمريكي كريس كايل «الشيطان الرمادي» العضو السابق في القوات الخاصة البحرية الأمريكية والذي يُعد من أكثر القناصين قتلاً في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية العسكري إذ وصل عدد من قتلهم إلى 160 قتيلاً عراقياً ما بين رجال ونساء وأطفال، مؤكداً (من 255 قتيلاً يدّعي أنه قام بقتلهم) أثناء تواجده في العراق والذي قُتل رمياً بالرصاص عام 2003 في ميدان إحدى مقاطعات تكساس، وفي ذلك آية للمتوسمين.
والذي ذكّرنا بالمجندة الأمريكية «ليندي إنجلاند» التي ارتبط اسمها بفضيحة سجن أبو غريب.
والمدهش أن تنتفض بريطانيا لتفنيد معلومة أن كريس كايل القناص الأكثر قتلاً في العالم، فبين جنودها القناص الأكثر قتلاً والذي وصل عدد من قتلهم 173 قتيلاً ما بين جنود ومواطنين حينما كان في أفغانستان.
إذن، الأمر خرج ها هنا من كونه «فعلاً مخالفاً للإنسانية السوية» إلى صفة «داعمة للبطولة والفضلوية»، لنقف أمام تحديث لدلالة «القتل» تحديثاً يحوّل ذلك الفعل إلى «ثنائية الدلالة» فكل يفسّر دلالته وفق خلفيات كفاية أيديولوجيته اللغوية.
وإذا تجاوزنا ذاكرة القريب للبعيد، فما زالت الجرائم الوحشية التي حدثت في سجن «أبو غريب» في أوائل 2004 والتي فجّرت فضيحة انتهاكات جسدية ونفسية قام بها أشخاص من الشرطة العسكرية الأمريكية التابعة لجيش الولايات المتحدة حاضرة في ذاكرة العالم قد تتفوق على وحشية داعش.
وليس معتقل «جوانتانامو» ببعيد الذي وصفته منظمة العفو الدولية «بأنه يمثّل همجية هذا العصر».
وهو ما يدفعنا إلى القول ما أشبه «ليلة داعش» «ببارحة جوانتانامو» و»سجن أبو غريب».
إن الصور السابقة بداية بالتاريخ الأسود للشعوب المستعمِرة وصولاً إلى كريس كايل وداعش لا تختلف في مضمونها فجميعها تروّج للوحشية، ولجميعها مشاهدون ومؤيدون.
فما الفرق بين ما فعله جنود الجيش الأمريكي في سجن أبو غريب وبين ما تفعله الآن جماعة داعش؟، ما الفرق بين ما تقترفه السلطة الأمريكية في جوانتانامو، وبين ما تفعله جماعة داعش؟، ما الفرق بين ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي مع الفلسطينيين، وما تفعله جماعة داعش؟.
المضمون واحد والتوظيف الوظيفي هو المختلف، واختلافه مرجعه الاحتيال على الأيديولوجية اللغوية للشعوب، فهذا تؤيده باسم حرية الفكر والإبداع والدفاع عن النفس، وذلك ترفضه وتعاقبه باسم التطرف والإرهاب؛ وتلك قسمة ضيزى.!
فهناك من يرى أن «كريس كايل» من خلال فيلم القناص الأمريكي أو «أمريكان سنايبر» صورة «للبطل الأمريكي»الذي روّجت له على الدوام السينما الهوليودية والذي يحمي المستضعفين من الأشرار ويقضي على أعداء أمريكا، وهنا يصبح القناص «ثيمة عامة» للجيش الأمريكي، فالصفة الخاصة ها هنا مُلِزمة للعام، كما يصبح الشر ثيمة للعربي المناضل.
في حين أن هناك طرفاً آخر يرى أن «حرية الفكر والمعتقد والإبداع» لا تتقيد بأي حرمات أو بأي حقوق وجدانية أو معرفية أو لغوية للآخر، ولا عزاء لتلك الشعوب المتضررة من تلك الحرية المتوحشة التي تستبيح كل شيء باسم الحرية.
إن الحرية المنفلتة هي وجه آخر للتوحش والهمجية، كما أن التطرف وجه من وجوه التوحش والهمجية، فأن تقتل أبرياء باسم الحرية والديمقراطية هي جريمة مساوية بالقدم والساق لقتل أبرياء باسم التعصب الديني والتطرف.
قد تبدو الدلالات في ظاهرها مختلفة، لكن الظاهر ليس غالباً للقياس على الباطن، والأمر لا يعود هنا إلى تعددية الجذر إنما مرجعه إلى الكفاية الثقافية لحركة الدلالات ذاتها والتي بدورها تشكّل الإستراتيجية التفكيرية التي يعتمد عليها خطاب الفرد والجماعة لتكوين الحقيقة اللغوية مع الآخرين سواء على مستوى الوظيفة أو المعتقد أو السياق.
ومن هنا تبدأ إشكالية التقاطع مع المعرفة اللغوية بين الجماعات المختلفة وفق الكفاية الثقافية للمعرفة اللغوية، فاللغة هي التي تشكّل طريقة تفكيرنا، وليست طريقة تفكيرنا هي التي تشكّل لغتنا ولا يُستثنى من ذلك الإبداع.
قد يقول البعض إن الميثاق اللغوي العالمي الذي ثبّت التداولية اللغوية كمرشد قاموسيّ يوحّد الكفاية اللغوية للمدونة اللغوية، هو مُحصِن للعقيدة اللغوية لأي جماعة من أي انحراف لغوي لثنائيات الدلالة.
لكن الانحراف اللغوي ليس دائماً حاصل الثنائيات الدلالية، إنما يتم غالباً وفق «القرائن وآثارها»، وهنا يُصبح التمثيل هو القيمة لا المجرد.
وأهمية التركيز على «القرائن» لِما لها من دور في تحديد اتجاهات الموقف الاتصالي للفرد والجماعة لأن التوصيف الوظيفي للتمثيل لا يتم إلا بها، ولذا لا يمكن أن نتجاوز «القرائن» كمعيار حاكم على سلامة القيمة أو عوارها لخطاب الجماعة.
ويمكن أن نعلّق الهجوم على شارلي أيبدو المجلة التي اكتسبت شهرتها وأموالها من الإساءة إلى الإسلام ونبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام باسم الحرية بالتقاطع المختل بين الجماعات في وضع حدّ واضح للتوصيف الوظيفي للقرائن الرئيسة الممثلة لقاعدة الأيديولوجيات اللغوية لتلك الجماعات؛ لأن المجتمعات الأقوى اليوم تريد أن تتحكم في مدونة الأيديولوجيات اللغوية للمجتمعات الضعيفة، وهو ما يفتح الباب أمام خلاف عالمي آخر بين الإسلام والغرب مصدره هذه المرة دلالة الأيديولوجية اللغوية، فإذا لم تستسلم لِما يفرضه عليك الغرب من أيديولوجية لغوية، فأنت متطرف.
ولا شك أن مقاومة هذا الاستعمار للأيديولوجية اللغوية للعرب والمسلمين لن ينجح عبر التطرف، إنما من خلال تجديد الخطاب الديني والثقافي للعرب والمسلمين يفسح لتوافقية الأيديولوجية اللغوية المشتركة مدى لا يضرّ بالقرائن المقدسة.
إننا لا نفهم الوجود والواقع إلا عبر العقيدة اللغوية لكل منا - فرداً وجماعة - ثم نعيد تدوير حاصل تلك العقيدة لنمنهج فهمنا للوجود والواقع.
والعقيدة اللغوية هي علامات مشفرة بقرائن مخصوصة مرتبطة بالسند اللغوي للفرد والجماعة، وتلك القرائن هي التي تحدد المعيار الانفعالي للفاعل اللغوي ومسار موقفه الاتصالي وتردداته السلوكية والانفعالية.
إن نشأة الموقف الاتصالي وما ينتج عنه من خطاب كأنا وآخر يعتمد على أيديولوجية العقيدة اللغوية لكليهما، وما يحدث من اختلاف أو تصادم أو صراع حاصل الأيديولوجية اللغوية للفاعل اللغوي ومسار موقفه الاتصالي.
ومن العبث كما أعتقد «توحيد المدونة التداولية العالمية للأيديولوجية اللغوية» المعتمدة على قيمة المجرد بدلاً من «القرائن المقدسة» لأسباب أهمها؛ أن ذلك التوحيد لا يستطيع إلغاء تاريخية العقيدة اللغوية للفرد والجماعة، كما أنه لا يستطيع التحكم في ضبط حرية الكفاية الثقافية للفرد والجماعة، ولا يستطيع التحكم في الفروق الدلالية داخل الإيديولوجيات اللغوية للأفراد والجماعات.
إن ثقافة اللغة للفرد والجماعة قائمة على ميثاق «العقد الاجتماعي» ثم «الحذف والإضافة النهضويان» لكن تأثير الحذف والإضافة متاح ما لم يتصادم بجدار العقد الاجتماعي وميثاقه، ومن هنا يبدأ التصادم بين أفكار الأفراد والجماعات المستفزّة لذلك العقد.
والحرية والتطرف من أهم الأفكار التي تقع وسط تقاطع الترسانة الفكرية لثقافة الشعوب، وأهميتهما مرجعه إلى متعلقاتهما المختلفة والمؤثرِة؛ فهي مكون رئيس لأسلوب حياة بما يتضمنه ذلك الأسلوب من قيم واتجاهات، كما أن تثبيت وحدة تجريدية للدلالتين هو أمر غالباً لا يمكن توفيره؛ لسعة الفجوة بين النسبية التي قد تصل لحدّ النقيض التي يحظى بها كلا الدلالتين عند أصحابهما المختلفين، وهو ما يعيق استقامة الإقناع اللازم لكل طرف بالموجِب الأسهل للتوافق الدلالي الذي يجمع ولا يفرق ومراعٍ للكفاية الأيديولوجية لتاريخ البنية اللغوية للفرد والجماعة.
إن الحرية المسِرفة مثل القمع والظلم والاضطهاد خالقة للتطرف.
- جدة