ولا يمكن لنا أن نحكم على نجاح أو فشل نظرية النقد الثقافي العربية التي نادَى بها الناقد عبد الله الغذامي حتى نحتكم إلى التطبيقات العملية التي مارسها، التي أسقط بها ما نظّره له في الفصلين الأول والثاني من كتابه (النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية).
ليكن حكمنا دقيقًا يجب أن ُنقيم التطبيق العملي أو الإجرائي الذي قام به الناقد على نماذج من النصوص الشعرية والنثرية وحسب مفهومه أو رؤياه في النقد الثقافي لكي يتسنى لنا الحكم حول نجاح أو فشل المشروع النقدي العربي الجديد، ولا نستطيع أن نعطي له السبق العالمي لأنَّ النقد الثقافي انبثق من الدراسات الثقافية التي بدأت مبكرًا منذ عام 1964 على يد جماعة برمنجهام، لكننا نعطي الناقد السبق العربي في هذا المضمار لأنّه أوّل من نادَى به وطبّقه عمليا على نصوص شعرية ونثرية وبالتالي يمكن لنا أن نعطيه عصا السبق عربيا كي نعرف ونتعرف على الآلية التي حددها الناقد في تحويل الفعل النقدي من الأدبي إلى الثقافي فقد حدد أربع عمليات إجرائية:
1- نقلة في المصطلح النقدي ذاته.
2- نقلة في المفهوم (النسق).
3- نقلة في الوظيفة.
4- نقلة في التطبيق (13).
وسوف أتخذ هذه العمليات الإجرائية الأربعة مدخلا عمليا للتطبيق:
التطبيق النظري الإجرائي على النصوص/ من الفصل الثالث إلى الفصل السابع سأختار فقط نموذجين للتطبيق الإجرائي لإسقاط مفهوم النقد الثقافي تطبيقا واحدا من الشعر القديم الآخر من الشعر الحديث كي أعطي مقاربة للفكرة بالتطبيق العملي التي عمد إليهما الناقد.
يقول الشاعر جرير: (14)
أنا الدهر يُفنى الموت والدهر خالد
فجئني بمثل الدهر شيئا يطاوله
اعتمد الشاعر على (الأنا) في خطابه وهو جملة ثقافية، وحسب الناقد هي أنا نسقية مغروسة في ذهن جرير، فما الذي دعا جرير إلى اللجوء إلى (الأنا) في خطابه النسقي هذا؟
الإجابة في إكمال الحدث الثقافي، حيث كان هنالك تحدّ من قبل خصمه الشاعر الفرزدق الذي بدأ هذا السجال بقوله:
فإني أنا الموت الذي هو ذاهبُ
بنفسك فانظر كيف أنت محاوله
ولأنّ الفعل كان تحديا بين شاعرين على قدرة الردّ ثقافيا وشعريا، جاءت نسقية الخطاب وحسب ما ذكر صاحب كتاب العمدة عن الحادثة: أنّ جريرا ذهب إلى الرمضاء يتمرغ بالتراب، وهو يقول: (أنا أبو حزرة).. (15). ويستحثّ نفسه ويستعين بتضخم أناه للردّ، التي تشظت إلى اثنتين:
1- أنا أبو حزرة.
واقعية حقيقية.
2- أنا الدهر
ثقافية نسقية.
على وفق رؤية الناقد وضع جملة جرير في سياقها الثقافي، نلحظ الكيفية التي فكك بها الحدث وقطعه ومن ثمّ أوّله من واقعي كونه لقبا حقيقيا لجرير إلى أنا الدهر، تمّ وضعها كمرادف في نسقية البيت مقابل نسقية بيت خصمه الفرزدق أنا الموت.. هذه الأنا التي تضخمت متحدية ني الآخر.
- فماذا يعني مجرد الاستعانة بالضمير المنفصل (أنا)؟
الحقيقة ليس فقط الاستعانة بالضمير أنا، ما يقرأه الناقد وإنما خطاب الشاعر، فهو أولا يعتدّ بنفسه، وثانيا تفخيم أناه، وثالثا التذكير بأنّه: (أبو حزرة وهي كنِية جرير)، الشاعر المخضرم الذي صرع عشرات الشعراء. كل هذا جاء من باب التعالي والتذكير بقدرته على الرد، فهو من هو بين العرب ومكانته بين الشعراء.. وبالتالي أصبح خطاب الشاعرين بـ (أنا) التفخيمية المتحدية المتعالية.
فأنا الفرزدق.. (أنا الموت).
تقابلها أنا جرير.. (أنا الدهر) يفنى الموت... الخ.
هنا ينظر الناقد من زاوية النقد الثقافي أن خطاب الشاعرين خطاب نسقي مكرور في الشعر العربي لا جديد فيه، أي أن نظرة النقد الثقافي تختلف عن نظرة النقد الأدبي، تقيّم البيتين من حيث البلاغة والفصاحة وجمالية الصورة والاستعارات والكنايات، لكن المسألة مختلفة تماما في النقد الثقافي من خلال تتبع نسقي الدلالة يقيّم البيتين بأنهما ليس فيهما أي جديد مطلقا، فالاثنان يتفاخران ويتباهيان ويعظمان ذاتهما ويقدمان شاعرتهما على الآخر، وهنا تبرز (الأنا المتضخمة)، وهذه موضوعات مكررة ومطروقة مئات المرات قبلهما فلم يأتيان بجديد.. هذه هي الزاوية التي ينظر منها النقد الثقافي.
وفي مثال آخر يختار الناقد نصا من معلقة عمرو بن كلثوم ومنها:
لنا الدنيا وما أمسى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
بغاة ظالمين وما ظلمنا
ولكنّا سنبدأ ضالمينا
ملأ البرّ حتى ضاق عنا
وماء البحر نملؤه سفينا
أذا بلغ الرضيع لنا فطاناً
يخرّ له الجبابرة ساجدينا
ونشرب أن وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدرا وطينا
ترانا بارزين وكلّ حيّ
قد اتخذوا مخافتنا قرينا
ونحن الحاك مون إذا أطعنا
ونحن العازمون إذا عصينا
وفق رؤية الناقد تعد هذه مكونات لعناصر النسق حيث تحوّل القبلي إلى ثقافي (16)، بمعنى أنّ المفهوم المتعارف عليه قبليا حسب العرف الجاهلي قد تحوّل إلى خطابي نسقي حسب رؤيا الناقد استنادا إلى مفهوم النقد الثقافي، حتى يصل إلى الجملة الولود -كما سمّها- ومنها انسلت أو توالدت بقية الجمل النسقية الأخرى:
ألاَ لاَ يجهلنَ أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وبالمفهوم الدلالي ذاته لتضخيم الذات (الأنا) يتمّ إقصاء أو إلغاء الآخر، كما حدث مع إقصاء لأعداء القبيلة (تغلب) بتضخيم المركزية النسقية التي تحتويها طاقة الفخر وتتبناها (الأنا المتضخمة)، بالآلية النسقية ذاتها تحوّل المفهوم الدلالي النسقي عند جرير من تضخم (الأنا) المركزية النسقية إلى إقصاء بل إلغاء الآخر متحدية (الفرزدق)، هنا تبرز رؤيا الخطاب الثقافي من خلال تتبع نسقية الدلالة، وهذه هي أهمّ ميزات النقد الثقافي عندما يتمّ تطبيقها، تتعدد زوايا النظر إلى مركزية الخطاب.
ننتقل إلى تطبيق أجرائي آخر على الشعر
- ما هو مفهوم النسق أو النسقية حسب رؤيا الغذامي؟
ما توصلتُ إليه أن مفهوم النسقية يعني: هي النتيجة المتوقعة كتحصيل حاصل من القول. لكن الناقد يأخذ منها الجانب السلبي الذي تم توظيفه في نسقية الخطاب، وأن تحوّلت إلى ثقافة سلبية حسب رأي الناقد، مثلا: عندما يتحدث ابن المقفع عن الأوائل فيصفهم بالآتي: (أنّ الأوائل أكبر أجساما وأرجح عقولا)، والنتيجة المتوقعة من نسق كلامه هي: أنّهم أقوياء وحكماء، وهذا ما يسميه الغذامي بالضروية النسقية (17).
والأمثال ذاته في أماكن أخرى من كتابه نستعرض بعضها: جاء وصف المتنبي في بعض كتب الأدب بأنّه (كالملك الجبار يأخذ ما حوله قهرا وعنوة) (18)، وواضح من نسق الكلام أنّ المتنبي -كشاعر- متمكن وواثق من نفسه ويستطيع أن يأخذ من الشعر ما يريده دون عناء. وفي بيت مشهور آخر- لم يذكره الدكتور الغذاميّ- يقول المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرّاها ويختصم
وهو يصبّ بالمعنى ذاته والخطاب النسقي ذاته، فمن بيت المتنبي نفهم أن بقية الناس يسهرون ويختصمون في مطاردة الشعر وصوره، بينما هو ينام قرير العين لأنّ الشعر طوع بنانه ولا يحتاج إلى أن يسهر كما يفعل الآخرون ولا يحتاج أن يختصم مع أحد، وهذا قمة الاعتداد بالنفس والثقة بها، هذا يفهم من نسق خطابه أي خطاب المتنبي، وما لم يقله الغذامي أن مفهوم النسقية في الخطاب هي النتيجة المستنبطة من القول أو تحصيل حاصل للقول، أي ما يصفه الناقد بـ (مركزية الذات وتعاليها المطلق وإلغاء الآخر والتعالي عليه) (19).
- وفي بيت آخر للمتنبي حيث تصل به (تضخم الأنا) إلى درجة لم يسبقه بها أحد ولم يفكر مجرد تفكير بها أحد قبله ولا بعده، إذ يقول في رثائه لجدته في ميميته المشهورة:
وأنّي لمن قومٍ كأنّ نفوسهم
بها أنف أن تسكنَ اللحمَ والعظما
ففي هذا البيت حصرا رفعا المتنبي نفسه فوق البشر فوق الطريقة التي خلق الله بها الإنسان من لحم وعظم، إذ يقول الله في محكم التنزيل من سورة المؤمنين، قال تعالى: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) آية 14.
لكن المتنبي يأنف أن ينتمي لهذا الخلق من اللحم والعظم، إذ إن نسقية خطاب المتنبي ليس فقط إقصاء للآخر بل إقصاء لآلية الخلق الإنساني بأكملها، ومن خلال تتبع نسقية الخطاب منذ العصر الجاهلي إلى الأموي والعباسي إلى العصر الحديث نجد أن الآلية النسقية ذاتها في الخطاب المتبع عربيا سواء عند المتنبي أو أدونيس أو جرير والفرزدق الخط ذاته والنسق ذاته.
فكيف يتسنى لنا قبول خطاب الحداثة عند أدونيس مثلا وهو يسير على منوال القديم؟ لذلك يقول الناقد عبد الله الغذامي (هذه المقولة أنشأت فصيلة بشرية متعالية عن الواقع والعقل والحق).
وفي مثال آخر نسبه القرطاجني في منهاج البلغاء إلى الخليل بن أحمد الفراهدي قول مأثور: (الشعراء أمراء الكلام يصرّفونه أنى شاؤوا ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم، ويحتج بهم ولا يُحتج عليهم، ويصورون الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل) (20).
وفي ضوء هذا التفسير الذي وضعته أنا ما هي النتيجة المتوقعة أو التحصيل الحاصل من قول الفراهيدي هذا؟ أن الشعراء لهم مكانة في القول لا يدانيهم بها أحد ويجارهم بها أحد، ولهم القدرة على التحكم بمجريات الكلام وقلبه أو جرّ إلى المنطقة التي يريدونها هم، - هذا التفسير حسب رأيي أنا-
أما رأي الدكتور عبد الله الغذامي وهو ليس ببعيد عن رأيي فيقول: (هذه المقولة أنشأت فصيلة بشرية متعالية عن الوقع والعقل والحق) (21). ثم ينتقد هذا بأن هذا التعالي له أثار سلبية فيقول: (وهذا أمر له أثره السلبي الخطير الذي لا يقف عند حدود الشعراء بل أن تحول مع الزمن إلى نسق ثقافي) (22). فالنتيجة التي اكتشفناها من الخطاب النسقي في كل الأمثلة التي استعرضناها هي المحصلة التي ستتحول في النهاية إلى خطاب ثقافي أو جزء من المفهوم العالم للذاكرة العربية خاصة في الجانب السلبي منه أي أعطاء مفاهيم السيادة والتعالي والتجبر والتميز المطلق والأنا المتعالية، وهذه وفق رؤية الناقد ذا مفاهيم خطابية سلبية قادت لها الأنساق في القول شعرا ونثرا.
هناك مثل آخر يورده الناقد فيما يخصّ أدونيس فيقول: عندما وضعت مؤسسة البابطين لوضع موسوعة الشعراء العرب ففاتحت أدونيس بهذا الأمر لكنّه اشترط عليهم أن يختار هو اللقب الذي يضعه في هذه الموسوعة الأمر الذي رفضته مؤسسة البابطين. وهذا يصب بالمعنى ذاته من مفهوم الخطاب النسقي عندما نتحدث عن شخصية أدونيس من تضخم الأنا أو بـ (مركزية الذات وتعاليها المطلق وإلغاء الآخر والتعالي عليه) (23). من جانب، ومن جانب آخر وفق رؤية الدكتور الغذامي: (هذه المقولة أنشأت فصيلة بشرية متعالية
******
عن الوقع والعقل والحق) (24).
الخاتمة: من (ص 286-295) حول مفهوم نسقية الخطاب عند أدونيس
يقول الناقد انّه استخلص من النماذج الشعرية التي أفضت إليه مقولات أدونيس تحددت بالسمات التي رصدها الناقد بدقة وعمق حول تنظيره وإسقاطه على أشعاره فوجد آلاتي:
- مضاد للمنطقي والعقلي.
- مضاد للمعنى وتغيير في الشكل ويعتمد على اللفظ.
- نخبوي وغير شعبي.
- لا تاريخي.
فردي ومتعالي ومناوئ للآخر.
- خلاصة كونية متعالية وذاتية.
- يعتمد على إحلال فحل محل فحل سلطة محل سلطة.
- سحري والأنا فيه هي المركز.
وحسب رؤية الناقد هذه هي السمات الشعرية لشعرية أدونيس، وهي لا تضيف شيئا جديدا للثقافة العربية ويعلل الناقد ذلك بقوله (أن الشعر منذ معرفة الإنسان به يقوم على هذه الأسس وهي أسس خالصة الشعرية وقد تشبعت الذات العربية بها منذ الأزل) (25)، وبما أنّ أدونيس قد سلك ذات المسلك القديم في (الأنا المتضخمة) (السيادة والتعالي والتجبر والتميز المطلق والأنا المتعالية)، فهذا يعني أنّه لم يأت بجديد مطلقا فقد سار على ذات النسق الخطابي الذي سار عليه الأولون ولم يجدد شيء ولهذا يؤكد الناقد (وبما أنّ ما أطروحة أدونيس تدور حول هذا النموذج النسقي وتصدر عنه فأنها لا يمكن أن تكون أساسا للتحديث الفكري والاجتماعي) (26).
أخيرا..
عندما يكون الحديث عن أحد أهل الإحسان في النقد الأدبي، برؤيته المتقدمة التي قدمها طوال ثلاث عقود من عمره المديد، الذي أثرى المكتبة العربية بكتب أصبحت مرجعا لطلبة الأدب والنقد في كل أنحاء الوطن العربي، فلا يحسن بنا أن نضع الدكتور عبد الله الغذامي وإنجازه المهم بمكانة مساوية مع غيره ممن امتهن النقد أو التنظير. بل يجب أن نضعه مع رموز النقد العربي لأنّه صاحب مشروع وصاحب نظرية قدمت ورفدت الأدب العربي برؤية متقدمة في مفهوم النقد الثقافي، وعلينا أن نضعه مع أهل الإحسان الذين قدموا أفكارا متقدمة خدمت الأدب العربي لتميّزه عن غيره ممن امتهن النقد حرفة أو موهبة، وكما تفتخر الأمة الفرنسية بأعلامها من النقاد والمنظرين أمثال (جاك دريدا، رولان بارت)، فإننا كأمة عربية ومن حقنا أن نفاخر بأعلامنا من النقاد والمنظرين أمثال (أحمد أمين، ميخائيل نعيمة، الدكتور عبد الله الغذامي).
** __ ** __ ** __ ** __ **
ورقة «الغذامي وتحديات النقد المعاصر ..رؤية مبتكرة» ألقيت في محاضرة للدكتورة رائدة مهدي العامري وذلك مساء يوم الثلاثاء 12/ 12/ 2023م في كرسي غازي القصيبي بجامعة اليمامة.
الفهرست
(13) النقد الثقافي، مقدمة نظرية وقراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء / بيروت .62،2000
(14) المصدر نفسه:119.
(15) المصدر نفسه:120
(16) المصدر نفسه:122.
(17) المصدر نفسه:133
(18) المصدر نفسه:131
(19) المصدر نفسه:129
(20) المصدر نفسه:130
(21) المصدر نفسه:130
(22) المصدر نفسه:130
(23) المصدر نفسه: 129
(24) المصدر نفسه:130
(25) المصدر نفسه:294
(26) المصدر نفسه:294
** **
- د. رائدة العامري