كتب د. شعبان مرسي:
يحتفي مجمع اللغة العربية في القاهرة والعالم بـ«اليوم العالمي للغة العربية 2023» في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام لنتذكر قرار الجمعية العامة للأمة المتحدة رقم 3190 والذي ينص على إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة في أكتوبر عام 2012 خلال انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي لليونسكو ويتمحور عنوانها «العربية: لغة الشعر والفنون». ويتزامن الاحتفال مع الذكرى الخمسين لإعلان اللغة العربية لغة رسمية في الأمم المتحدة لتأكيد مساهمتها الغزيرة في إثراء التنوع الثقافي واللغوي للإنسانية فضلاً عن إنتاجها للمعارف وبناء الحضارات.
قال الدكتور عبد الوهاب عبد الحافظ رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة إن الاحتفال العالمي للغة عربية منبر ثابت كل عام، لأن اللغة التي اصطنعها الشاعر والأديب وأصبحت وسطية بين جميع اللغات في شبة الجزيرة العربية وحدودها خاصة مقتصرة على ممتلك المعرفة، وإن كانت مفهومة بين العامة، والأسواق الأدبية والمناسبات كانت البذرة الأولى في اختيار اللغويين والتخطيط اللغوي غير المقصود في حينها من شعراء وخطباء قبائلهم يجرون تصفية لغوية حول مواهبهم التي مكنتهم من بروز الصفوة في التوجيه اللغوي القائم على إقصاء لغوي منكور وآخر مقبول. وغالباً كان الحدث على مستوى لغة الشعر، فاللغة تقام على محاور عريضة قليلة في الاختلاف والتباين لكنها ازدادت نمواً وازدهاراً بنزول القرآن الكريم الذي تخيرها لينزل بها قال تعالي {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عربياً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) سورة يوسف، وقال أيضاً {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (195) سورة الشعراء، ليفهمه جميع الناس من شتى القبائل العربية، لكن اليوم يتجاهل الغرب تراثنا العربي من مرئيات شمولية وموضوعية يفقدنا الكثير من هذه المميزات، وهنا لابد من التنسيق الكامل والواضح بين مختلف الهيئات المحافظة على اللغة العربية عبر أرجاء الوطن العربي وتوزيع الأدوار بين هذه المؤسسات في إطار تكاملي غير متكرر ومنظم لمشروعات تهدف إلى تنمية اللغة العربية وتوجيهها نحو نتائج وميادين أوسع عالمية، والأمر بدايته سياسي نحو تدبير إجرائي من ذوي الأمر، هدفه تحديد اتجاه التغيير على نحو ما تكون مرجعيته أصلاً يرد على ما يقع من خلاف لغوي سديد يحدد مرحلة وضع ضوابط تقوم على التطبيق والتقويم تدخل في مجالات التغيير السلوكي مع الإكثار من الاستخدام في كل النواحي بالفصحى كبديل متاح عن العامية المنتشرة في كل الأماكن التي دخلت حصوننا التعليمية، فالعودة إلى الأصل ليزداد التهذيب بين الناس وتكون اللغة العربية نموذجية تحل العديد من المشكلات ذات الصلة منها الكتابة، فنرى طلاباً في المراحل الثانوية ضعفاء بالكتابة والقراءة واعتبارات أخرى كالسلوك والأسلوب في الحوارات الشارعية فيما بينهم وبخاصة الشباب منهم لذا نلتزم بالتلقي من أهل اللغة المتمثلة بالمستويين النطقي والتلفُظي في أروقة المدارس وأسوارها منذ بدء المرحلة الابتدائية وانتهاءً بالجامعة بحيث يتدرج الطالب من الاستماع إلى الاستيعاب ثم إلى مماسة اللغة.
أضاف رئيس مجمع اللغة العربية أنه لابد من تقليل الانبهار المبالغ فيه باللغات الأجنبية والتي نتج عنه مداخلة بعض الكلمات أثناء الحديث لدى بعض فئات المجتمع خلال حياتنا اليومية، وأنها كانت مطلوبة لمعرفة لغة الغير لكن لا نجعلها أساساً لتربية أبنائنا عليها مع إدخال الخطط الدراسية والكتب التعليمية وعقد الدورات التدريبية للمعلمين على الطرق الحديثة في تعليم اللغة لتطوير أدائهم اللغوي وتيسير استعمال الألفاظ والتراكيب في مواقف اجتماعية.
صرَّح رئيس مجمع اللغة العربية أنه من أصعب التحديات في هذا العصر الازدواجية اللغوية والخطر أنها تسير سليقة عند استخدامها اليومي فيكثر الضعف والمتاعب التي يعاني منها أبناؤنا في تعلمهم، وعلينا أن نغذيهم باللغة العربية لغة القرآن الكريم والشعر والخطابة مع التركيز على المفردات والصيغ اللغوية والقواعد النحوية، بهدف استعمالها لتعبير والتفاهم لأنها وسيلة اتصال واستخدامها وظيفياً بصورة طبيعية حتى نصل إلى مرتبة أعلى في اللغة المتكلمة وينعكس على السلوك، لأن اللغة المنطوقة لها دور مهم في تيار التغير فتتحسن وسائل الاتصال بين الأفراد ويظهر إضفاء روح الحب والخير بسبب اللغة التي يسهل التفاهم بها والانفكاك عن العامية وتأثيرها في الناس.
أكد رئيس مجمع اللغة العربية على عودة مادتي الخط العربي والرسم بدءاً بمراحل التعليم الأساسي ونتذكر كتابة المصحف الشريف بخط ورسومات متعددة فكانوا أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مهتمين بالكتابة والخط العربي وعلماء العرب الأوائل يوثقون النصوص التي يتعلمونها في ظل النقل الشفهي المعد من مكونات الثقافة الإسلامية وسيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- اعتمد على نص واحد وحرف واحد، فتوحيد النص القرآني كانت لحظة حاسمة في تطوير الكتابة العربية وبعدها استُتبعت بكثير من القرارات تخص الكتابة والخط العربي وتم كتابة المصحف بالكتابة والرسم.
قال الدكتور عبد الحميد مدكور الأمين العام لمجمع اللغة العربية إن الاحتفال باللغة العربية جاء متأخراً عن وقته مئات السنين لأنها المعبر الحقيقي عن الحضارات السابقة التي تريد لنفسها البقاء، فاللغة سجل تاريخنا ووعاء ثقافتنا ونعيش بها وأنها عنوان هويتنا ولها دور في تشكيل الثقافات وبخاصة بعد الانفتاح على تراث الأمم السابقة سواء تراث الشعوب التي خضعت للحكم الإسلامي كالفارسية واليونانية والهندية وصار له التأثير والتأثر في الحضارات الأخرى سواء في التأثيرات العلمية واللغوية والاقتصادية وغيرها، وانتقلت العلوم والمعارف الإسلامية إلى أوروبا وكانت لغتها اللاتينية، وحصل الغرب على كتب العلماء الأوائل في الطب بحيث أخذوا كتب الرازي وابن سيناء وابن ماسويه، وتُرجمت هذه الكتب إلى الألمانية واللاتينية وكذلك علم الصيدلة ابن البيطار وعلم الرياضيات الخوارزمي وغيرهم.
أكد الأمين العام لمجمع اللغة العربية أن هناك جهات تهدد اللسان العربي من خلال كيانات ومؤسسات والوطن العربي، وأبناؤه في غفلة مما يحدث حولهم، فنلاحظ كثرة دعم اللغات الأجنبية في الداخل العربي تمويلاً وإنفاقاً وتشريعاً وبث روح التغريب بين الشباب العربي، وهذا التيار لابد من مواجهته لأن له أبعاداً ثقافية وسياسية واجتماعية وفنية يريد بها إصباغ الأمة بالصبغة الغربية وطمس هوية اللغة العربية وجعل المسلمين يطبعون بطابع الحياة والحضارة الغربية. والقضاء عليه يتم من خلال الإقبال عن اللغة العربية التي نشأت في رحمها ثقافات متعددة والمحافظة على قراءة القرآن الكريم الذي أصبح مهجوراً لدى الأكثرية وإشاعة العامية وامتلاء الفراغ الروحي والفكري والثقافي من دروس علوم اللغة والمعارف العربية وأداة العبادات بحب وليست كعادة موروثة.
أضاف الأمين العام لمجمع اللغة العربية أن حقيقة ربط اللسان بالدين والقومية العربية أمر جدلي واسع المجال لاسيما أن التفكير العقدي تفكير إطلاقي وأن دراسات القومية دأبت على اختلاف مناهجها ونظرياتها على أن اللسان بما هو مقوم أساسي في بناء الشخصية القومية، والإحصاءات العالمية تشير إلى أن اللغة العربية تسجل ارتفاعاً بين البشر من الناحية الثقافية والتأثيرية، ولولا الدين على اللغة لاندثرت مثل غيرها من اللغات. ويرى الباحثون أن دور القرآن الكريم في حفظ العربية ونشرها كان الدور الأوحد على الإطلاق، ومن المدهش أن الباحثين في حقل القومية على اختلاف نزعاتهم وتوجهاتهم الفكرية يجمعون على هذا الذي نقرره وهو ما يلزم إعادة إحيائه في برامج تربية المواطنين العرب من الوجهة القومية.
أكد الأمين العام لمجمع اللغة العربية وجود لجنة داخل مجمع اللغة العربية متخصصة في الذكاء الاصطناعي فقط تستخدم خاصية معالجة اللغات ووسائل التكنولوجيا الحديثة من الحاسوب والذكاء كمختبر للغة أمر مرغوب فيه وضرورة الاهتمام به لما له من أهمية في مجالات متعددة من تحسين العملية التعليمية، ويعدُّ جزءاً أساساً في سبيل النهوض باللغة العربية، لأنها مناخ مكثف للغة الفصحى وعليه إقبال كبير من الشباب خاصة لما يجدون فيه من تشويق ومتعة وثقافة.
قال الدكتور خالد فهمي خبير بمجمع اللغة العربية إن الاحتفال مسألة مهمة جداً من الوجهة النفسية ولكنها مهمة جداً حين تتخذ منحى إيجابياً يسهم في معالجة تقنية التهديد التي يمتد الشعور بها منذ زمان بعيد من عمر العصر الحديث، إن مراجعة التاريخ العربي المعاصر يشهد حضوراً للشعور بالتهديد اللغوي، يمتد على الخريطة الثقافية العربية المعاصرة ويمتد زمنياً كذلك. العقاد مثلاً انطلاقاً من الهوية الواقعية فتش في عن ملامح اللغة الشاعرة، ثم جاء مالك بن نبي ليعلن بصرامة ووضوح معلناً أن بقايا الاستعمار ماثلة في عجمة اللسان العربي، ثم جاء فهمي هويدي معلناً البيان المنذر المرعب: عروبة الخليج في خطر. هذه ثلاثة أصوات فقط تتوزع على الخريطة مشرقاً ومغرباً، وتمتد زمنياً لتغطي قرناً منصرماً ومطلع قرن نعاني معيشته! وهى تعلن جميعاً أنه لم يعد هناك وقت للاحتفال المعزول عن مخاوف التهديد، وهذه المقالة تسعى إلى أن ترفع الصوت بنمط جديد من الاحتفال من منظور إيجابي، يستهدف التنبيه السريع على التحديات التي تواجه اللسان العربي، وتدعو لحياطة هذا اللسان الشريف النبيل بما من شأنه أن يحفظ كرامته، ويقيم اعتباراً لما فيه تعافيه وصحته.
أكد الدكتور خالد فهمي أن تهديد اللسان العربي له تحديات في الوضع الراهن بسبب تغيرات حضارية واقتصادية وسكانية أطلت مجموعة من علامات تهديد اللسان العربي وإن كثيراً من التحديات المتنوعة تضعنا في قلب الشعور بالأزمة وأعراضها. وقد استفاض هذا الشعور بالتهديد وانتقل من الأروقة البحثية والعلمية إلى الفضاء الصحفي؛ وهو ما يعني تمدد الوعي بالحالة المعرفية الخاصة بتهديدات اللسان العربي لذلك يقول فهمي هويدي في مقالته: (عروبة الخليج من واجبات الوقت): [الشرق الأوسط ع 10242/ 13-2-2006م]. وعليه تعيين هذه العلامات من المقدمة الضرورية للمثاقفة حول إستراتيجيات المواجهة لهذه المهددات:
1. التحدي الحضاري
يمثل التحدي الحضاري أهم العلامات التي تهدد اللسان العربي، والمقصود به هو العجز العربي المروع في ميادين إنتاج المعرفة! لقد تراجع المجتمع العربي تراجعاً يرادف الموت أو التوقف منذ قرون طويلة عن إنتاج العلم، وهو الأمر الذي انسحب بالضرورة على إمداداته المنعدمة للمعجم العلمي العالمي. وهذا الشعور الحاكم مستفيض في كتابات اللسانيين العرب الكبار المعاصرين، يقول سعد مصلوح في مقدمة ترجمته لكتاب: إدوين غينتسلر: (في نظرية الترجمة: اتجاهات معاصرة): [المنظمة العربية للترجمة، 2007م بيروت؛ ص:18]: «اللغة العربية لا يمكن أن تعد من اللغات المحدودة الانتشار، لا من جهة عدد الناطقين بها، ولا من جهة نفوذها الديني والثقافي في بلاد الإسلام»، وقل مثل ذلك في وضع الثقافة العربية الإسلامية، ودورها في تاريخ التطور الحضاري للفكر البشري حضوراً وتأثيراً، ومع ذلك فإننا حين نشخص واقعها- نجد بلا ريب أن لغة العرب وثقافتهم تكاد تكون كلتاهما قابلة للانضواء تحت القسم الثاني الذي يتصف بمحدودية الانتشار وضعف التأثير «إن هذا الذي قرره هذا اللسان العظيم، وإن كان جاءه بفحص سهم العرب في نشاط الترجمة، فهو صحيح جداً بفحص سهم العرب المعاصرين في نشاط إنتاج العلم والمعرفة، ومن ثم تجديد اللسان، وتجديد المعجم. إن التراجع الحضاري للأمة العربية في أعلى تجلياته وأظهرها ينسحب بصورة مؤكدة على التراجع اللغوي للعربية، استعمالاً ومعجماً.
2. التحدي النفسي
يمثل التحدي النفسي واحداً من أهم التحديات التي تشكل واقع التهديدات التي تتعرض لها اللغة العربية في الوقت الراهن، ويمكن تلخيصه في أن العرب يعيشون حالة غرام مريض بالغرب! لقد حاول كثير من المفكرين العرب المعاصرين المنتمين للهوية اللغوية أن يشخصوا هذا التحدي النفسي، فكشفوا عما سموه الاستعداد للاستعمار -على حد تعبير علال الفاسي- ثم سمي القابلية للاستعمار عند مالك بن نبي، وهو المفهوم الذي استقر في بنية الفكر العربي المعاصر وظهر في تسمية واضحة تفسيرية فيما سبق نقله من فهمي هويدي باسم الهزيمة، وكل ذلك موصول بالقانون الذي أبدعه ابن خلدون قديماً عندما قرر أن المغلوب مولع بتقليد الغالب. إن هذا التحدي النفسي الذي يبدو أثراً ونتيجة من آثار التحدي الحضاري ونتائجه على المستوى النفسي العقلي للشخصية العربية المعاصرة في الغالب.
3. التحدي الاجتماعي
كان للتغير الاجتماعي الذي أصاب المجتمعات العربية على تفاوت بينها أثره في تنامي علامات تهديد العربية؛ ذلك أن التغير السكاني (الديمغرافي) الذي أصاب منطقة الخليج تعييناً، وزيادة أعداد العمالة الأجنبية؛ غير العربية فيها أثر تأثيرًا ظاهراً على تراجع العربية الفصيحة. وهو خطر حقيقي دعا الكثيرون أن يشعروا بحرج الوضع اللغوي العربي في هذه المنطقة تعييناً. وكان التفاوت المرعب في مستويات الدخول، وتغير أنماط الحياة اليومية، وشيوع النمط الاستهلاكي، والسلوكي المنقول من الغرب أثره في تزايد الشعور بعلامات التهديد أيضًا. وكان نمط الخدمات المقدمة للمواطن العربي في كثير من مجالات الحياة العامة، وانتشار وسائل الاتصال الحديثة المستوردة أثرها كذلك في تنامي علامات تهديد اللسان العربي. إن التغريب والبعد عن العادات والأعراف المنتمية للثقافة العربية التي شكلها الدين كان علامة ظاهرة في سياق قراءة التهديد ولاسيما أن تاريخ الدين هو بمعنى تاريخ اللغة على حد تعبير موريس أولندر في (لغات الفرودس) [ ص187].