رباب محمد
خوسيه ماريا.. صافحني هذا الاسم بغرابة، ولجتُ قصصه بحذر، رأيتُ أن لكل قصة من قصصه طابعاً خاصاً وديكوراً معيناً، زينة وبهرجة ضرورية نوعية ملهمة ومهمة، وتفرد وانتقائية.
منذ زمن وحين ودعت قصص غابرييل غاريثا في رف مكتبتي لم تُدهش ذائقتي القصصية كما حصل الآن مع خوسيه ماريا.
كأنه اعتاد على مخاطبة الأشياء المحيطة بالإنسان عوضًا عن كيان الشخص المادي، فهو يؤسس في قصصه هذا القرين الذي لا وجود له على أرض الواقع ومع ذلك فهو حيز بطل قصص خوسيه ربما بشكل كامل.
كانت دهشاته تنبع من الميلاد في الغرفة العلوية حين قال: (هذه الأحلام البراقة كان مقدراً لها ألا تتحقق).
خوسيه أيضًا يرفع من شأن الوجود المآته..
الوجود الظل..
شبه الوجود...!
حتى لو كان غيابًا فهو موجود في عُرف خوسيه في وجدانه لذلك يقول: (وعلى الرغم من ذلك كان له الحضور الحقيقي والفريد).
فنراه يسبل الزمن من بين أصابع قصصه، فهو هنا عكس مارسيل بروست في بحثه المضني عن زمنه المفقود..
خوسيه يُشّرد الزمن، يقمعه يجعله مجردًا من صوره عالية الكثافة إلى مادة سائلة منصهرة تنساب بسرعة الرمل من خلال شخوصه.
مؤمنة بأن لقلمه غربة مديدة كأنما يخشى فقدان أجوائه وأماكنه الغريبة الموحشة، لديه أيضًا حنين لشيء لم يستطع معرفته وهذا قائم في قصصه بهيئة غالبة.
ما شكّل لي مفترق طرق في قراءة هذا العمل الإبداعي هو قصة: (مفترق طرق) كم شعرت وأنا ألتهم صفحات هذه القصة بالرهبة من كل الصور المتغيرة بإحكام في صفحاتها!
كم أحسستُ أن الزمن الهارب هو الحياة لدى بعضهم، الذكريات المنتفخة في فرن الروح هي الأس الغائب في الحياة اليومية وعليها يُبنى مدار الحياة برمتها.
مشاعر من شلال متنوع ومختلف يعاضد بعضه بعضًا وحتى في أعلى درجات الاختلاف يجد قارئ قصص خوسيه أن التماسك والترابط ثيمة بارزة بين مفردات القصة وجارية على قدم وساق.
كم أذهلني حين قال: (أخذت تنظر إليه دون أن تفقد ضحكتها وكأنها تشجعه على مواصلة حديثه، أما هو فقد شعر بأنه مثل الأنبياء حين تنطلق من أفواههم كلمات صادقة كلمات قادرة على تحديد مصير الأشياء والآخرون).
على الرغم من كل الأبهة الشعورية التي شعرتُ بها وأنا في مفترق طرق استطاع خوسيه أن يجعلني أتذوق مرارة الرهبة والخوف والترويع فالخاتمة لم تكن مجرد خاتمة فثمة أشياء أخرى مخيفة ومحزنة وشائقة في الوقت ذاته!
إنه هو المذهل الذي استطاع أن يفوز بدهشتي في حقول قصته المترعة بالتنوع اللذيذ الذي جعلني أنطق: يا إلهي.. شيء مروع بالفعل..!
وبعدها بأقل من ثانية وجدتني أقول بكل ما بي من شغف صنعته القراءة: (وااوو)..! مدهش رائع بالفعل أنت عبقري يا خوسيه..!
أما كل الذي سبق لم يكن كله ما في الموضوع..!
تذكرون حين قلت في الأعلى: (كأنه اعتاد على مخاطبة الأشياء المحيطة بالإنسان عوضًا عن كيان الشخص المادي. فهو يؤسس في قصصه هذا القرين الذي لا وجود له على أرض الواقع ومع ذلك فهو حيز بطل قصص خوسيه بالكامل)!
هذا بالفعل ما وجدته في قصته (إشارة ورسالة)!
يا للعجب حين تملكني وأنا أقرأ وأحلل كيان هذ القصة المختلفة والنادرة شعورًا يتعرفه القارئ المتمرس بحدس أن ما يقرأه ليس عاديًا أبدًا..
فمثلاً يربط خوسيه رمزية ترتيب كتب المكتبة بمدلول واقعي يعيشه في حياته، وتلك الكتابات والرموز التي نراها على الجدران أو فيما اصطلح تسميته (أدب الشوارع) هي تمثل لبطل القصة الأسطوري عالم معاش حقيقي وواقعي حياة ومفردات يتعاطها ويتعامل معها..!
تنتشل البطل من الواقع إلى عالمه الخاص فالخلط ما بين ما هو متحد وما هو منفصل وما هو واضح وشائك وحقيقي وما هو خيالي لعبة أتقنتها أصابع خوسيه بحرفية قاتلة ومهنية شبة مستحيلة.
يؤكدها قوله: (ظل مويا ينظر إلى العلامة بحزن وأسى يشوبه الاحترام، ظل جسده يرتعش لأنه علم أنها الذكرى الوحيدة من سوتو).
تعالوا نفسر كلمة (يرتعش) تفسيراً منطقيًّا:
يرتعش بما تحمله هذه الكلمة من دلالات لفظية ومعنوية قوية وعصيبة وبما تملكه من سطوة ومن احتمالات واسعة فالبطل الثانوي يرتعش لأنه آمن بالذي سخر منه بالأمس، والذي كان يضعه في موضع المهانة وعدم اللامبالاة..
أتاه هذا الإيمان الذي لا يرى غيره أخيرًا في غياب عنصر الحكاية الأول..
شعور يقض مضجع الراحة لدى البطل الثانوي ويعمق لديه شعور الاغتراب والاحتراق الداخلي.
ختامًا:
قد شعرتُ بالفعل أن هذه القصص التي رافقتي ربما عام كامل ككتاب ثانوي أقرأه فقط إذا كنتُ في الخارج، فهذه المجموعة القصصية لم تبرح حقيبتي في أي مكان أذهب إليه، فكل فترة أقرأ منه قصة معنية، منها ما قرأته في المقاهي، والمكتبات، وفي انتظار العيادات، ومنها ما كانت سلوة لي في محطات السفر الطويلة وحافلات النقل العام..
أحسستُ أن هذه القصص نسخة مصغرة من ألف ليلة وليلة تنبض بالليالي المضيئة بالنجوم والستائر المواشاه والمشربيات المزخرفة، وفي الناحية المقابلة مجرد فراغ واسع وعالم مفتوح على مساحات لا نهاية لها..