كان الفيلسوف الإغريقي أرسطو هو أول من وضع منهجاً للنقد عندما أسس علم المنطق، وقد ظلت هذه القواعد هي المنهجية المتبعة للنقد لأكثر من ألفي عام، وحتى في عهود ازدهار العرب والمسلمين فإنهم لم يحدثوا نقلة نوعية في المنهجية النقدية بل ظلت كل تلك المحاولات تسير وفق هذه الأرسطية. في بيئتنا العربية كانت الأذن أو حاسة السمع هي المعيار النقدي، كانت بمثابة الميزان الذوقي للبيت الشعري أو القصيدة، ولا غرو فقد عرف العرب بطبيعتهم الشاعرية وسليقتهم الفطرية منهجاً بدائياً اعتمد على الذائقة الذاتية، فكان الناقد يعجب بالبيت أو القصيدة لمكامن فنية مجهولة تلقي بأثرها الجمالي على ذات الناقد، فتجده يمتدح هذا البيت أو تلك القصيدة بناءً على الأثر الجمالي الذي أحدثته في نفسه، فلم يكن النص الأدبي يُعرض على معايير فنية سوى تلك الأذن المرهفة التي تعطي شهادة الإبداع أو تمنعها.
في القرن التاسع عشر، تم تدشين مذهب جديد عُرف بمنهج العلوم الطبيعية، هذا المنهج دشنه الطبيب والناقد الفرنسي الشهير سانت بوف (1804-1869م)، وقد استنبط سانت بوف منهجه من تطور علوم الأحياء، لقد أنكر بوف مسألة الذائقة الشخصية ووضع قواعد للنقد صارمة، كان يحاول أن يضع حداً لعلم النقد وألا يجعله يستند إلى فكرة الذوق الشخصي، ولأنه طبيب فقد درس في علم الأحياء الممالك الحيوانية والنباتية، وتقسيماتها المعروفة من الفصائل والعشائر حسب تشابه خصائصها، وبالتالي فقد ذهب إلى تقسيم الأدباء والشعراء إلى مجموعات حسب أزمنتهم ومدارسهم وهكذا. لقد أحدث هذا الطبيب العظيم ضجة واسعة في الأدب الأوروبي عموماً، وفي الأدب الفرنسي على وجه الخصوص، كان معروفاً عنه الدقة المتناهية إلى درجة الهوس والجنون، كان يذهب إلى المكتبة العامة في باريس ليستعير عشرات المجلدات من أجل أن يكتب مقاله الأسبوعي، فقد أعطى النقد الأدبي قيمة لم تكن تتواجد قبله، كان الباريسيون ينتظرون مقاله الشهير (أحاديث الإثنين) بفارغ الصبر، فقد درس الأدباء والشعراء دراسة علمية تقوم على تفاصيل حياتهم، فقد كان يرى أن لهذه التفاصيل أثراً مهماً في نتاجهم الأدبي، فكان حريصاً على معرفة تفاصيل الأسرة التي عاش الأديب بين ظهرانيهم، والمدينة التي كان يقطنها، ومن هم أصدقاؤه ومريدوه. وهكذا، لم يكن يفوت شاردة ولا واردة إلا ويربطها مباشرة بنتاجه الأدبي. وقد خرج من كل هذا المجهود العظيم بثروة هائلة من النقد الأدبي، وبالتالي أصبح سانت بوف هو الرائد الحقيقي للنقد الأدبي الحديث، وقد خرج من عباءة مدرسته العديد من مدارس النقد الأخرى.
كان هايبلوت تين (1828 – 1869م) أحد أهم تلاميذ الدكتور سانت بوف، ولكنه لم يهتم بتفاصيل أستاذه العديدة، بل كان يعتقد أن الأديب يكتفي بنقده من خلال ثلاث قضايا رئيسية (الزمان والمكان والجنس)، فقد كان يرى أن هذه الزوايا الثلاث هي أهم ما يجب الانتباه لها عند دراسة الأديب، فهذه الثلاثة الأركان هي التفسير الحقيقي للأديب ونصوصه الإبداعية، ولكن تين اتُهم لاحقاً بالعنصرية، فقد عرفت هذه النظرية بنظرية (تين الاستعلائية) والتي يرى من خلالها الغرب أن العرق الآري هو أسمى الأعراق والأجناس البشرية، وأن الأعراق الأخرى لا تصل إلى درجة الإبداع الأوروبي كونها تفتقر إلى سعة الخيال والأفق، وعندما حاول تين أن يطبق نظريته على أعلام الأدب الفرنسي وجد أستاذه بوف لم يترك له أديباً واحداً، وبالتالي حوَّل مجهوده إلى الأدب الإنجليزي، وصنع موسوعة عظيمة في نقد الأدب الإنجليزي، وهو بهذه النظرية يلغي أصالة الأديب وتميزه كونه يخضع قسراً لهذه العوامل الثلاثة.
أيضاً من المدارس الأدبية التي تأثرت بمنهجية بوف المدرسة النفسية، وهي منهجية وضع أسسها عالم النفس الشهير سيجموند فرويد (1856- 1939م)، وهو طبيب نمساوي يعتبر مؤسس علم التحليل النفسي، وقد خدمت دراساته وأبحاثه علم النقد بصورة عظيمة، فقد منح النقاد أفكاراً مهمة في تحليل الشخصيات الأدبية، مثل (النرجسية وعقدة إلكترا وعقدة اوديب والعقل الباطن) وكذلك (الهو الأعلى والهو الأدنى)، فقد كان يرى أن الإبداع الفني ما هو إلا تنفيس عن رغبات جنسية مكبوتة في العقل الباطن أو اللاشعور، حتى في بيئتنا العربية، كتب الناقد الكبير عباس محمود العقاد (1889- 1964م) دراسة نقدية مهمة عن الشاعر العباسي الحسن بن الهانئ أبي نواس على طريقة أبحاث ودراسات فرويد، فكانت دراسته من الجانب النفسي رائدة وتجربة مثيرة في تاريخ النقد العربي الحديث.
وبهذه التجربة الفريدة أضحى فرويد عالم النفس الأول في العالم والذي لا يُشق له غبار، وأصبح له تلاميذ كثر، ومن أهم هؤلاء التلاميذ الدكتور كارل جوستاف يونج (1875 – 1961م)، والذي قدَّم هو الآخر دراسات مهمة في علم النفس وكان لها أثرها العظيم في علم النقد مثل نظرية (اللاوعي الجمعي)، كانت تلك الدراسة بمثابة شرارة الغضب التي اشتعلت بين الأستاذ وتلميذه، فقد هاجم فرويد هذه النظرية واعتبرها خاطئة جداً، فقد اعتبر يونج أن اللاوعي الجمعي يمثل الذكريات والخبرات المخزنة لدينا في العقل بارتداد زمني سحيق يعود لآلاف السنين، بمعنى أننا نرث من أسلافنا مجموعة من النماذج الأولية تجعلنا مثلاً نتخذ ردود الفعل ذاتها في مواقف معينة دون أن نشعر بوجودها!
وليعلم القارئ الكريم أن مباحث علم النفس وعلاقتها بالنقد ثرية ومتشعبة جداً، وهي مجال خصب لا يمكننا الإسهاب في أكثر من ذلك القول، ولكننا نختم هذه الحديث بأحد أهم رموزه وهو العالم النفسي أدلر، صاحب نظرية (مركب النقص)، وهي نظرية مهمة جداً لتفسير العديد من تصرفات وفنون وإبداعات العديد من الأدباء، فقد ذهب ادلر إلى أن الإبداع ما هو إلا نتاج هذا المركب النفسي!
في بيئتنا العربية، وفي بدايات القرن العشرين، تأثر الأدباء المصريون بهذه المناهج الأدبية الحديثة، فكان طه حسين أول من أدخل منهجية سانت بوف إلى أدبنا العربية، ويبدو أن العقاد تأثر بهذه الطريقة وأعجب بها، وقد أعد دراسة مهمة جداً عن ابن الرومي حسب هذه المنهجية، كما أسس العقاد وزميلاه إبراهيم المازني (1889 - 1949م) وعبدالرحمن شكري (1886 – 1956م) مدرسة الديوان، وهي مدرسة نقدية وشعرية، بمعنى أنهم انتقدوا أسلوب مدرسة الإحياء الذي كان يتزعمها أمير الشعراء أحمد شوقي، فصبّوا جام غضبهم على هذا الشاعر الكبير، وعن طريقة مدرستهم الديوان لم يكتفوا بالنقد بل شكلوا مدرسة شعرية ساهمت في تطور الشعر العربي الحديث بعد تأثرهم بالآداب الأوروبية.
كان العقاد يرى أن شعر شوقي يعتمد على الصنعة بدرجة كبيرة وبالتالي تختفي وتضيع ذاتية وملامح الشاعر وشخصيته الفنية، فلا تجد بين أبيات الشوقيات ما يدل على شخصية شوقي أو ذاته، والحق أن العقاد بهذا التوجه قد أنار النقد العربي باتجاهات جديدة ولكنه في الوقت نفسه قسى بغلظة على شاعر كبير، وقد ندم على ذلك في آخر حياته، ومما يجدر القول أن أحمد شوقي بعد هذا الهجوم القاسي قد استعان في آخر حياته بالفنان محمد عبد الوهاب وكان في مقتبل حياته الفنية بغناء قصائده وأشعاره بعد أن خشي عليها من النسيان بعد قسوة نقد مدرسة الديوان لها.
وفي خاتمة المقال نقول إن مدارس النقد الأدبي متعددة وكثيرة جداً، حسب الاتجاه الذي يراه الناقد، الاتجاه الديني أو الرومانسي أو الانطباعي أو الاجتماعي أو النفسي وهكذا، وفي هذا المقال إلماحة بسيطة عن بعض تلك المدارس التي أحدثت أثراً واضحاً في تطور النقد الأدبي عالمياً وعربياً.
** **
- عبدالله العولقي
@albakry1814