أرهقته الحوادث وتقلّبات الأيّام، وعصيان اللحظات، لهج بدعاء ملحّ، وحين أفاق من لجّة نفْسه قرر أن يستأنس برؤية بيته القديم موطن الذكريات ورائحة ليلٍ عِذاب هناك يستقي من أيّامه البيض ما يدفع خطواته قليلاً إلى الأمام، وقف أمام سور بيته القديم، وقبل أن يخدِ لذكرياته القديمة سمع ما قطع حبل تواصله مع ماضيه، أرهف السمع فإذا بصوت أنين يصخب القلب، تلفّت.. تأكّد آلّا أحد يسمع صوت الأنين سواه.
عاد إلى بيته فزِعاً مخذولاً، في اليوم التالي فزّ من نومه، أرهقه صوت الأنين الذي سمعه يوم أمس، قرر أن يعود إلى بيته القديم المهجور، الذي ذاع منه صوت الأنين، وقف أمام الباب الصدئ المهترئ، أرهف السمع فلم يسمع شيئاً، اطمأن وهمّ بالعودة، بعد بضعة أمتار عاد صوت الأنين ينبعث بقوّة، أدرك أن صوت الأنين مقابل الجدار الجنوبي.
الباب مغلق منذ هجر البيت قبل عشر سنوات، ولا سبيل إلى الدخول إلى البيت إلا بكسر قفله.
جلب معولاً وبدأ يهشّم قفل الباب، سار نحو الجدار الجنوبي الذي يستر صالة البيت، الأنين ما زال ينبعث من الجدار، احتدمت نفْسه وبرزت عروق جبهته، دفعه الغضب فهوى بالمعول على الجدار تكسيراً وتحطيماً، وكأنّه سمع أصوات حكايات مختنقة تقفز من بين طيّات الزمن المتلاشي لتسكب أنينها في قلبه، وتراءى له نزّ دمٍ سال أسفل الجدار، وكلما برزت بين عينيه حكاية ملغومة أو حدثاً متوهّجاً أو ذكرى تقدح القلب، انقضّ عليها تحطيماً وقتلاً، وحين أبصر أشلاء الحكايات مبعثرة منثورة مستباحة، وقف ومسح عرقه، تنفّس بعمق، كان صوت الأنين يخفت يختنق ثم ينطفئ …
ثمّ ينبعث ثانية من بين ضلوعه.
** **
- عبدالكريم بن محمد النملة
@Moaivn6