أطلق معهد العالم العربي بباريس المعرض الفني الثقافي الفلسطيني بعنوان «ما تقدمه فلسطين للعالم» الذي بدأ فعالياته في 31 مايو الماضي ويستمر حتى 19 نوفمبر 2023. يشتمل المعرض على جولات إرشادية وورش عمل وقراءات سردية للصغار والكبار عروض وأفلام وندوات ومناقشات. عن هذا الحدث الاستثنائي، صرح رئيس المعهد ووزير الثقافة السابق السيد جاك لانج بأن المعرض يستمد قيمته من التاريخ بنفس القدر الذي يستمده من حيوية المشهد المعاصر.
جدير بالذكر أنه في شهر ديسمبر 2011، وقّع 250 مثقفا عربيا على وثيقة للمطالبة بمقاطعة المعرض المخصص «ليهود الشرق» الذي نظمه معهد العالم العربي بباريس حيث وُجِّهت إلى هذا الأخير أصابع الاتهام «بإعطاء إشارات صريحة تهدف إلى التطبيع مع نظام الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري». حرصت إدارة المعهد في ردها، الذي تأخر، على التذكير «بأن رئيس المعهد السيد جاك لانج يساند بقوة الشعب الفلسطيني ويدعِّم السلام.
يصاحب هذا المعرض إصدار كتاب جماعي يحمل نفس العنوان «ما تقدمه فلسطين للعالم» وتبلغ عدد صفحاته نحو 336 صفحة، من منشورات معهد العالم العربي بالتعاون مع دار نشر سوي في 10 / 03 / 2023 وبمشاركة مجموعة كبيرة من الفنانين والرسامين والباحثين والصحفيين والكتاب الذين يقدمون تحليلاتهم وقراءاتهم عن فلسطين التاريخ والثقافة والفن.
يتناول كتاب «ما تقدمه فلسطين للعالم» الأخبار الفلسطينية من زاوية مجتمعية وثقافية إذ لا وجود لأي مكان آخر في هذا العالم يمتزج فيه التاريخ والأديان والخيال والسياسة غير هذا المكان، فكل حجر في فلسطين يحتفظ بأسراره الخاصة.
عنوان الكتاب «ما تقدمه فلسطين للعالم» يثير تساؤلات كثيرة ومعقدة، لأنه غالبا ما ينظر البعض إلى فلسطين من منظور الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بينما تعد فلسطين بالنسبة للبعض الآخر غير موجودة أصلا أو أنها المنطقة التي تتفاقم بها المشكلات وتنذر بمخاطر قد تتسع لتشمل دول الجوار الإقليمي.
يقول الصحفي الفرنسي كريستوف عياد عن كتاب «ما تقدمه فلسطين للعالم»: «في الوقت الذي تبدو فيه فلسطين كأنها مستبعدة من قبل جميع الدول، اخترنا، على مرأى ومسمع من الجميع، أن نعود إليها لكي نحكي عن شعبها الذي تبعثر عبر التاريخ وتشتّت في كل مكان. سنحاول أن نسيح في أراضيها المبعثرة بين غزة والضفة الغربية ومدينة القدس التي تُعد المركز المفقود الذي ضمه الاحتلال الإسرائيلي وابتلعه جدار الفصل العنصري. ولأن الاحتلال أصبح رمزا للاستعمار في هذا العالم الذي يحاول جاهدا القضاء على الاستعمار في النصف الثاني من القرن العشرين، فإن فلسطين لم تعد سيدة نفسها أو أنها لم تعد مستقلة بذاتها لأنها قضية ومصدر إلهام للعالم أجمع. إن الكوفية الفلسطينية تمثل علم الثوار، وكما أن الجنسية الفلسطينية لم تعد مجرد جنسية من دون دولة، فإن هذه الجنسية تعد حالة وعلامة على رفض الخضوع، انها تمثل المقاومة العنيدة في كل لحظة وكل إيماءة. إننا نتحدث عن العالَم الذي يسير إلى الأسوأ وتخبرنا عنه فلسطين. إن فلسطين تعيش بالفعل كأنها في عالم منعزل ومراقب ومحبوس ومتوحش وليبرالي جديد. إن الفلسطينيين يعرفون معنى أن يكون الغنسان منفيا في أرضه التي يملكها. دعونا نتعلم منهم.
كما يبدو أن ما كتبه كل من رئيس معهد العالم العربي والسيد هيوز جالون، مستشار التطوير والمحتوى التحريري بدار نشر سوي الفرنسية، عن هذا الكتاب الجماعي الذي يجمع بين دفتيه نحو خمسين مقالة (نصوص وقصص مصورة وخرائط ورسوم توضيحية) يهدف إلى التأكيد على سرد قصة فلسطين من دون التطرق إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي حيث أراد المسؤولون عن هذا الإصدار تسليط الضوء على مختلف قطاعات الشتات الفلسطيني في جميع أرجاء العالم.
إن كتاب «ما تقدمه فلسطين للعالم» لا يمكن اعتباره تقريرا عن الحالة الفلسطينية، لكن يمكن النظر إليه باعتباره إشادة بفلسطين التي تتمتع بمكانة خاصة جعلها تشرق على العالم من منطلق الأفق السياسي والثقافي: فهي رمز مقاومة الشعوب المضطهدة وهي مصدر إلهام الفنانين في جميع التخصصات.
ولأن شهرة فلسطين تكتسح العالم كله بعد أن غزت فتنتها وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، فقد بات من الضروري أن نفهم حقيقة هذا البلد وهذا الشعب من أجل إزاحة المناطق الرمادية وفهم الوضع المعقد لهذا البلد بشكل أفضل: تاريخه وجغرافيته وثقافته وفلسطينيو الشتات والقوى السياسية الحاضرة والشخصيات الفلسطينية البارزة.
ختاما: إن هذا الحدث الثقافي الذي يتم تقديمه في شكل معرض وكتاب ويحمل عنوان «ما تقدمه فلسطين للعالم»، في ظل الوضع غير مستقر في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تتعرض لعنف لا يحتمله عقل من جانب الجيش الإسرائيلي والمستوطنين اليهود، لا يزال يُعد إنجازًا غير مسبوق ولا يمكن أن تخطئه عين.
إن فلسطين التي يبلغ عمرها ألف عام ليست مرادفة للصراع والدمار فحسب، بل هي أيضًا منارة ثقافية لا تزال تغذي العالم أجمع. ومع ذلك قد يسأل القارئ والمتابع نفسه: ألا يكفي «ما تقدمه فلسطين للعالم» وإلى متى ننتظر ما يقدمه العالم لفلسطين؟
** **
- د. أيمن منير