د.فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح
سلامٌ عليكم ورحمة من الله وبركات تحيات عطرات.
معاشر القرَّاء الأكارم مرحباً بكم..
في ضحوة يومٍ من أيام عيد الفطر السَّعيد العام المنصرم 1444هـ في مدينة حائل العامرة يسَّر الله لي زيارة المهندس المضياف القدير الأستاذ: خالد بن محمَّد الشَّغدليِّ، وله عادة أنَّه يشبُّ من (الشَّبَّة) معدِّاً القدوع والقهوة والشَّاي وفوقها وجبة الإفطار كلُّ شيء زاهب وجاهز، وهي عادة يوميَّة عنده قوَّاه الله، يجتمع عند لفيف من الأصدقاء والزُّملاء والزَّائرين والعابرين فهو يرحب بمن يحضر إليه، وكنت ممَّن زرته ذات صباح من صباحات إجازة العيد، وقد وافانا عنده الأستاذ العزيز أستاذي في اللغة الإنقليزيَّة في المرحلة الثَّانويَّة ثانويَّة نجدٍ أبو حمد سعود بن محمَّد الشَّغدليُّ شقيق صاحب الضَّحوة، واجتلبنا معه ومع الحاضرين الذِّكريات ويجذب الحديث الحديث فانجذب حديث إلى الكلام عن الفقيد الأستاذ القدير الزَّكيِّ طاهر القلب مخموم الفؤاد أبي حمد إبراهيم بن سليم بن فرح العنزيُّ الغضوريُّ معلِّم العلوم الشَّرعية في ثانوية نجدٍ بحائل رحمه الله رحمة واسعة، أسأل الله تعالي أن يجعله في قبره من المطمئنِّين، ويوم ويقوم الأشهاد من الآمنين، ووالديَّ أجمعين.
وكان ممَّا ذكر لي أستاذي الأستاذ سعود أنَّه على شفير قبر زميله وصاحبه أنَّه قعد يعتصر الذِّكريات ذكريات ثلاثين عاماً معاً زميلاً في المدرسة، وصاحباً خارجهاً، ورفيقاً في رحلات القنص الجبليَّة، وأنَّه سكب عبراتٍ حرَّى همَّالة لم يعتد أن تخرج منه اعتصر بها كلَّ ذكريات السِّنين الغابرات، رحم الله الفقيد الأستاذ أبا حمدٍ إبراهيم، وجزى الله صديقه الوافي سعوداً أبا حمدٍ خير الجزاء، وتذكَّرت بقوله هذا على مهيل شفير قبر صاحبه واعتصاره الذِّكريات قول شاعر العراق الجواهريِّ في رثاء أخيه جعفراً:
وعوَّضت عن قبلتي قبلةً
عصرت بها كل ما يؤلمُ
عصرت بها الذِّكريات الَّتي
تقضَّت كما يحلم النُّوَّمُ
أخي جعفراً إن رجع السِّنين
بعدك عندي صدى مبهمُ
أمَّا أنا فقد عرفتُ الفقيد الأستاذ إبراهيم بن سليم في حارتنا في الوسيطاء بحائل الملاصق لحيِّ البادية، وكان أبوه الشَّيخ سليمٌ شيخاً كبيراً عزيزاً عندي وقديراً أعدُّه أباً ثانياً لي، وكنتُ أزوره في بيته؛ إذ بيته ليس ببعيد من بيتنا، فهو معدود من الجيران، وكان من عادة الشَّيخ والد الفقيد أنَّه يجلس في ظل بيته عصراً عنده القهوة والشَّاي ينظر للغادي والرَّائح والمصعد والمسند، وربما وقف عنده من يعرفه وسلَّم عليه وأخذ فنجالاً معه من القهوة وانصرف، وأنا أزور الشَّيخ وأجلس معه، وذلك لأنَّي رأيت أنَّه يفرح لمجيء إيَّاه، ويسرُّ بذلك، وربما ناولني كتاباً فيه أشعار البادية فعنده كتب فيها تلك الأشعار، وأظنُّها الآن كتب الأستاذ فهد المارك.
وحال النَّاس مع كبار السِّنِّ الإهمال خصوصاً في النَّهار وفي العصر فهم يتركون في البيوت وحدهم، وذلك لانشغال الأبناء في أعمالهم صباحاً وراحة ما بعد العمل عصراً، فلا يلتفت إلى الكبار إلَّا مساءً= هذا الحال إذا كانوا في بيت واحدٍ؛ أي: بيت حمولة، أمَّا إذا كانوا في أحياء متفرِّقة فربما اجتمعوا في الشهر أو في الجمع.
وعوداً على بما بدأتُ به من مجلس الشَّيخ عصراً، إذا انتهى المجلس العصريِّ ينعقد مجلس آخر من بعد صلاة المغرب في برحة بيت الشَّيخ سليم صيفاً، وفي مشبِّ النَّار شتاءً، (المشبُّ) هو دار يكون فيها وجار، و(الوجار): مكان معدٌّ لإيقاد نار الحطب، ويكون بجوار النَّار دلال القهوة السُّعوديَّة وأباريق الشَّاي والحليب السَّاخن مع الزَّنجبيل.
يحضر في هذا المجلس المغربيِّ الأبناء، والجيران، وذوو القرابة والمعارف، وكنتُ ممَّن يحضره من أوَّل المجلس، وكان أستاذي الفقيد إبراهيم أيضاً ممَّن يحضر المجلس مع أوَّله، وأنا وهو نتسابق في الحضور فحيناً أسبقه، وحيناً يسبقني.
ومن لطيف أمر الفقيد أنَّه يمرُّ علينا مع والده مسلِّماً علينا، ويتجاوزنا ويدخل داخل البيت، ويأخذ مقدار ما يصل إلى ربع ساعةٍ ونحوها تزيد أو تنقص، ثُمَّ تراه يخرج إلينا ويجلس معنا، ولمَّا سألت والده لما هو يفعل هكذا، ذكر لي أنَّه يذهب إلى أمِّه أولاً، يسلِّم عليها ويحادثها يؤانسها، ثُمَّ ينصرف إلينا، وقد أكَّد لي ذلك حينما سألتُه فقال للأمِّ حقوقاً ثلاثة، رحم الله أستاذي، ووالديه، ووالديَّ رحمة واسعة.
لقد كنت تلميذاً له في مدرسة نجدٍ الثَّانويَّة العام 1414هـ في الموادِّ الشَّرعيَّة من تفسير وفقه وحديث، وتمضي سنوات أربع، وأعود في العام 1419هـ معلِّماً للُّغة العربيَّة في الثَّانويَّة نفسها ثانويَّة نجدٍ، وأستاذي الفقيد ما يزال معلِّماً فيها، فطار بي فرحاً لمَّا أن علم بذلك، وحينما راني داخلاً عليهم في المدرسة اصطحبني معه إلى عدد من الصُّفوف ا لَّتي يدِّرس بها، وعرَّف الطُّلاب بي أنَّني قبل أربع سنوات كنتُ طالباً مثلهم في هذه الكراسي، والآن هو زميل لي= يقول ذلك مفاخراً ومفتخراً وحاثاً الطَّلبة على الجدِّ والاجتهاد.
وتمضي السِّنون وأعرف عنه أكثر ممَّا عرفته من قبل، فقد كان -رحمه الله - طُلَعة يحب العلم، ويفرح له، ويسرُّ به، لحظتُ ذلك من مشاركاته لي ومداخلاته عليَّ لمَّا أن أتكلَّم على مسألة نحويَّة أو إعرابيَّة في الجلسات الخلويَّة الَّتي تكون في الطَّلَعات البريَّة.
وكان لا يتبرَّم من أجل الازدياد في العلم، وذلك أنَّه رغب إليَّ أن بعقد مجلساً نقرأ فيه كتاباً من كتب الأدب التُّراثيَّة، وأحسب انَّه وقه الاختيار على كتاب (البيان والتَّبيُّن) للجاحظ، كلانا يحضر كتابه هو يقرأ وأنا أعدِّل وأصحح وأحللِّ وأعللِّ، وأجيب عن أسئلته في الإعراب ووجه الضَّبط لما نقرؤه، عن سبب رفع هذا وسبب خفض هذا، واحتمال الأوجه الجائزة في هذا الموضع أو ذاك.
وحينما رقب كتاباً عندي ولمحه عن إعراب القرآن الكريم كاملاً، وكان هذا الإعراب غريباً إذا إنَّه أسفل كلِّ كلمة أعرابها مختصراً بالرُّموز= سُرَّ بهذه الطَّريقة، وحرص على قنيته، ووعدته بنسخة أجلبها له من الرِّياض؛ فاغتبط بذلك غاية الاغتباط، وأنس لهذا الخير غاية الأنس، وقد أحضرت نسخته، ووهبته إيَّاه هديَّة، فشكر لي هذا الصَّنيع، ودعاء لي بالتَّوفيق.
وممَّا لمسته فيه وعرفتُه عنه أنَّه عليم خبير بأسماء جبال حائل إذ يعرفها صخرة صخرة، وقد ذُكِر لي أن سائحاً أجنبياً أو باحثاً استشراقياً زار حائل ورغب في معرفة شيءٍ عن جبل أجأ فدلَّ على الفقيد فأحمد اللقاء به إذ صحبه وعرَّفه بشعاب أجأ، وتلاعها، وعيونها، ونخيلها، وديارها، ودار به سلسلة جبال أجأ جبلاً جبلاً يوقفه عليها واحداً واحداً، ومآثره الحسنة، وأخباره السَّارة كثيره.
ختاماً.. ها هي سنة تمضي مذ رحيل أستاذي العزيز أبي حمد إبراهيم بن سليم، رحم الله أستاذي الَّذي فقدته رحمة واسعة ورحم والديه ووالديَّ، وجمعنا به وبوالدينا في مستقرِّ رحمته.
ودمتم في رعاية الله وحفظه وكلاءته معاشر القرَّاء.