مِن أشهر مشاهير العرب في الجاهلية المتأخرة: بِسطام بنُ قيس بنِ مسعودِ بنِ قيسِ بنِ خالدٍ البَكْري الشَّيْبَاني، ابنُ ذي الجَدَّيْن، وأمه لَيْلَى بنت الأَحْوَص بن عَمْرو الكَلْبية ثم من بيتِ الرئاسة في بني حِصْن بن ضَمْضَمِ بن عَدِي بن جَنَاب، عَمّةُ نائلةَ بنت الفَرافِصَةِ بن الأحوص زَوْجِ عثمان بنِ عَفّانَ رضي الله عنه، وبنو جَنابٍ عَرانينُ كَلْب وأشرافُها، يُقال لهم: قُرَيْشُ كَلْبٍ، أي إنهم في قُضَاعَة كقُرَيشٍ في مُضَرَ، في السِّطَة والحَسَب وكثرة الأشراف وبُعد الصِّيت، وأمُّ لَيْلَى: الرَّبَاب -رَبَابُ الخَيْر- بِنتُ حارثة بن لَأْمٍ الطائِيةُ أخت سيد العرب أَوْسِ بن حارثة بن لأم، فقد جَمَعَ بِسطام الشَّرَفَ من طَرَفَيْه.
كان بِسطام يُكْنَى أبا الصَّهْبَاء، وهي ابْنَتُه، وكان له سواها بَنون: الأَحْوَص، وفريص، وفَرْوة، وزِيق بن بسطام، وقد كُنِيَ به أيضا، وعاش زِيقٌ حتى أدرك إمارة الحَجّاج، وبنتُه حَدْراءُ بنتُ زِيق بنِ بسطام التي تزوجها الفرزدق ثم لم يَصِلْ إليها في القصة المشهورة.
كان بِسْطام فارس بني شَيبان في الجاهليّة، بل فارس رَبِيعة كلها، وكان يُعَدُّ في جَرّاري ربيعة، ولا يكون جَرّارٌ حتى يَقُود أَلْفًا، وقد رَبَع الذُّهْلَين واللَّهَازِمَ اثني عَشَرَ مِرْباعا، وله قال أوس بن حَجَرٍ الأُسَيْدِيّ:
كأنّ أبا الصَّهْباءِ في حَوْمَةِ الوَغَى
إذا زَأَرَ الآسادُ لَيثٌ مُحَرَّبُ
وَأَسَرَه مَرّة عُتَيْبَة بن الحارث بن شهاب اليربوعي الثَّعْلَبي فافتدَى نَفسَه بأَربَعِمِئَةِ بعير وثلاثين فرسا وهَودَجِ أمه لَيلَى وما وَرَّثه أبوه قيس بن مسعود، فَضَرَبَت العَرَبُ به المثل فقالت: أَغْلَى فِداء من بِسطام!، وفَخَرَت يربوع بذلك.
وكان بِسطام إلى رِفعة البيت وشَرَف المَحْتِدِ شجاعا سخيا عفيفا، وكان نصرانيا، ولم يزل في رئاسته وفُرُوسَتِه وبُعْدِ ذَهاب اسمِه إلى أن غزا ضبة، فأُتِيحَ له عاصمُ بنُ خليفةَ الضَّبّيّ الصُّبَاحي فقتله يوم الشَّقِيقَة، وذلك بعد البعثة، ورسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ بمكة لَمّا يُهاجر، وفَخَرَت ضَبّة بقتل بِسطام، وعاش عاصمٌ قاتلُه عُمُرا بعد ذلك وأسلم، فكان إذا أتى الخلفاء استأذن فقال: «عاصمُ بنُ خليفةَ قاتلُ بِسطام بن قيس بالباب»!، وعَظُمَت رَزِيّة شيبانَ بموته فقال أبو عمرو بن العلاء: «قُتِلَ بِسطام وبنو شَيبَان بسَفَوَانَ، فما بَقِيَ بَيْتٌ إلا هُجِمَ إعظاما لقتل بسطام»، والبيتُ: بيت الشَّعَر، ومعنى هُجِمَ أي قُوِّضَ وأُسْقِطَ ونُقِضَ.
هذه باختصار ترجمة بسطام، وما مِن حاجةٍ إلى بسطها هنا بأكثر من هذا، وإنما المقصود تحريرُ ضبط اسمه، والقول في أصله وفي إعرابه، فبِسطام اسمٌ مُتّفق على عُجْمَته، مُختَلَفٌ في أصله، وهو بكسر الباء لا فتحها، فقد صَرّح الجوهري في صَحاحه بأن العرب «عَرَّبُوه بِكَسْر الباء» (انظر: الصَّحاح 5: 1873 طبعة دار العلم للملايين الثالثة)، وقد عُدَّ فتحُ الباء من غلط العامة (انظر: لحن العَوَامّ للزُّبَيدي ص106 بتحقيق رمضان عبد التواب، الطبعة الأولى) وتابَعَه مَن بعده، ومنهم ابنُ هشام اللخميُّ وزاد: «لم يُرْوَ إلا بكسر الباء» (انظر: المدخل إلى تقويم اللسان ص74 بتحقيق حاتم الضامن، طبعة البشائر الإسلامية 1424)، و قولُ النووي في شرح مسلم (2: 120 بتحقيق مازن السرساوي طبعة دار المنهاج القويم سنة 1441) إن صاحب المَطالِع حكى فتحَ الباء مُشكِلٌ، إذ ليس في المَطالع المطبوع غير الكسر على الجادة (انظر: مطالع الأنوار لابن قرقول 1: 574 طبعة وزارة الأوقاف القطرية سنة 1433)، ولهذا قال أحمد شاكر: «بِسطامُ بكسر الباء في اسم الرجل قولا واحدا»، (انظر تحقيقه للمُعَرَّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم لأبي منصور الجواليقي ص105، الطبعة الثانية: 1389).
أما أصل بسطام فقد اختُلِفَ فيه على قولين، وهذا الخلاف -فيما أُرَى- هو الذي جَرّ الاختلافَ في إعرابه، بَيْنَ مَن يَصرِفُه ومن يَمْنَعُه من الصرف. وبيانُ ذلك:
-أن مَن مَنعوه من الصرف قالوا: إنه في الأصل اسم ملك من ملوك فارس سَمّى به قيسُ بنُ مَسعودٍ ابنَه، قاله ابنُ دريد في جمهرته (2: 1124 بتحقيق رمزي بعلبكي سنة 1987م) وقال فيها (3: 1326): «هو بالفارسية: أُوستام»، ونقله الجوهري في صَحاحه (5: 1872)، وأبو منصور ابن الجواليقي في المُعَرَّب (ص104)، فهو على هذا عَلَمٌ في الأصل، ومَن صَحّح هذا مَنَعَه من الصرف، لا مَندُوحة له عن ذلك، ومنهم: أبو الحسن الأخفش الأصغر، فقد أخذ على شيخه المبرَّد صَرْفَه في الكامل (1: 297 بتحقيق الدالي، مؤسسة الرسالة: 1418)، وابن خالويه كما نقل عنه ابن بَرّيّ، وقَطَعَ بهذا ابن بَرّيّ لكنه احترز فقال بمنعه «إذا ثبت أن بِسطام اسم رجل منقول من اسم بِسطام الذي هو اسم ملك من ملوك فارس»، والنقلُ عن ابن بَرِّيٍّ مُستَفاد من لسان العرب (14: 316 بسطم، طبعة بولاق)، وعلى هذا القول قال الدكتور فانيَامَبَادِي عبد الرحيم: «أوستام بالفارسية معناه: رجل أمين وموثوق به، ومن معانيه أيضًا: اللِّجَام، وأوستان لغة فيه» (انظر: ص171 من المُعَرَّب لأبي منصور ابن الجواليقي بعناية الدكتور ف. عبد الرحيم، دار القلم بدمشق: 1410).
-أما صَرْفُه فلم أجد نَصًّا فيه صَرْفُه مقرونا بالاحتجاج له، غير أنه وَقَعَ في عدد من المصادر مصروفا، وأصحُّ ما وجدتُّ من ذلك صَرفُ أبي العباس المبرَّد له في الكامل (1: 297 بتحقيق الدالي، مؤسسة الرسالة: 1418) ودليلُ صَرْفِه له أن صاحبَه الأخفشَ أخذه عليه كما تقدم، وصرَفَهُ أبو منصور ابن الجواليقي بخطه في نسخته من «نسب عدنان وقحطان» للمبرد المحفوظة بالإسكوريال برقم: 1705 (ص65/ظ)، وصَرَفَه في كتابه المُعَرّب، كما في النسخة المقروءة عليه وعليها خَطُّه، المحفوظة في الإسكوريال برقم: 124 (ص14/ظ). وسوى هذا فقد وقع في المطبوعات مصروفا في كلام ابن سَلّام في طبقاته، وأبي عبيدة في النقائض والديباج، والبلاذري في أنساب الأشراف، والطبري في تاريخه، وابن دريد في الجمهرة والاشتقاق، والزمخشري في الفائق، وغيرها. ووَجْهُ ذلك -فيما يظهر- اشتراطُهُم لِلمَمْنُوع من الصرف من هذه البابة أن يكون عَلَما في اللسان الأعجمي قبل نَقله إلى العربية، وبِسْطام -على قول- لم يكن عَلَمًا في الفارسية التي نُقِلَ منها، فقد حَكى ابنُ الكلبي في جمهرته (ص506 ط. ناجي حسن) أن قيس بن مسعود كان في حَبْسِ كِسرَى فبُشرَ بغلام وبين يديه غُلَامٌ يُوَرِّثُ نَارا بإسطام حديد -والإسطام هو المِسعَار الذي تُحَرّك به النار لتَتّقِد، وهو سرياني كما قال الدكتور فانيَامَبَادِي عبد الرحيم في الموضع المتقدم آنفا-، فسأله: أيُّ شيء هذا ؟ قال: إسطام، فسمى ابنه بسطام بن قيس، والقولُ باشتراط سَبْقِ العَلَمِيّة في اللسان العَجَمِي جَعَلَهُ أبو حَيّانَ (في التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل 15: 61-64 بتحقيق حسن هنداوي: 1440، وارتِشاف الضَّرَب 2: 875 طبعة الخانجي: 1418) خِلَافَ المشهورِ عند النحاة، وقال إنه مذهب الأستاذ أبي الحَسَن الدَّبّاج «وظاهرُ مذهب سِيبَوَيه»، كذا قال، مع أنه مَذهَبُ خلائقَ مِن متقدمي النحاة ومتأخريهم، يُوخَذُ مِن تَصريحِهم أو مِن ظاهر كلامهم، منهم: المُبَرَّد (المقتضب 3: 325 بتحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، الطبعة الثالثة: 1415)، والزَّجّاج (ما ينصرف وما لا ينصرف ص45 بتحقيق هدى محمود قراعة، سنة: 1391)، وابنُ السَّرّاج (الأصول 2: 92 مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة: 1417)، وأبو عَلِي الفَسَوي (المسائل المنثورة ص274 دار عمار بالأردن: 1424)، والرُّمَّانِي (شرح كتاب سيبويه 5: 2120-2121 دار السلام بالقاهرة، الطبعة الأوى: 1442)، والصَّيْمَري (التبصرة والتذكرة 2: 554-555 بتحقيق فتحي علي الدين، سنة: 1402)، وابن جِني (اللُّمَع ص111 بتحقيق سميح أبو مغلي، دار مجدلاوي: 1988م)، والجُزُولي (المقدمة الجزولية ص209 بتحقيق شعبان عبد الوهاب، القاهرة، الطبعة الأولى: 1408)، وابنُ مُعْطٍ (الفصول الخمسون ص156، بتحقيق محمود الطناحي، مطبعة عيسى البابي الحلبي 1397)، وابنُ يعيشَ (شرح المفصل 1: 66 طبعة المنيرية)، وابنُ الحاجب (الإيضاح في شرح المفصل 1: 111 دار سعد الدين: 1425)، وابنُ مالك (في الألفية، وفي شرح الكافية الشافية 3: 1469 بتحقيق عبد المنعم أحمد هريدي، دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى: 1402)، وابن عَقِيل (شرح الألفية 3: 332 بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة العشرون: 1400)، وابنُ هشام (أوضح المسالك 4: 125 بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مصورة المكتبة العصرية/ وشرح قَطْر الندى ص313 مطبعة السعادة 1374/ 1954م) وغيرهم، بل قال الأُبَّذِي في شرحه للجُزُولية إنه لَمّا نَبَّه شيخَه أبا الحسن الدَّبَّاجَ لتَرجيح أبي عَلي الشّلوبِين مَنعَ صَرفِ العَلَم الأعجمي مُطلقا مِن غير النظرِ في أصله قال له: «هذا المذهب لم أَرَهُ لأحد إلا ما قلتَ لي عن الأستاذ أبي عَلِي» (انظر: شرح الجزولية للأُبّذي، تحقيق حسن بن نفاع الحربي من أول باب التنازع إلى نهاية منع الصرف - رسالة ماجستير، ص267-268).
فظهر من هذا أن عُلْقَة النحوِ بعلم النسب حاصلة، فأساس وجه صرف بسطام هو الخبر الذي حكاه ابن الكلبي في جمهرته، ومثلُه ما يتعلق بالخلاف في صرف سَلول في هوازن وسدُوس في ربيعة، وغيرها، مما لا يستقيم القطع فيه بوجه من غير الاحتجاج بأصح أقوال النسابين.
واتّضَحّ منه أيضا أن قول الخَفَاجي في شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل (ص35 مطبعة السعادة: 1325): «بِسطام علم أعجمي فلا وجه لصرفه كما وقع في شرح البخاري» غيرُ مُحَرّر، وبانَ حُسنُ احتراز ابن بَرِّيٍّ وضبطه كلامه السالف، فكأنه لما رأى كثرة صرف بسطام في كتب أهل العلم المتقدمين اتّهَم نفسَه وقَدَّر أنّ لهم حُجّة لم يستحضرها أو لم يطّلِعْ عليه، وراعَى عَلَى ذلك حَقَّ العِلم ببيان القاعدة النحوية بلفظٍ مانِعٍ جامِعٍ، فأدّى الأمانة وسَلِم من المُوَاخَذَة، فرَحِمَنا الله وإياه وسائرَ مَن ذَكَرْنا مِن المُؤمِنين.
** **
محمد بن محمدي - الشارقة