د.حسن مشهور
تأتي السيرة الذاتية بشقيها السردي والمتلفز في الأدب السعودي؛ لتشكل أحد الأجناس الأدبية الحديثة نسبيا في الساحة الأدبية والأكثر حداثةً في وعي وتوجه المثقف السعودي الذي اعتاد منذ تشكل وعيه على سماع الشعر، باعتباره المرجعية الأسمى للثقافة العربية، ويمكن أن يحمل على ذلك إلى حد ما الخطابة والمقامات أو فلنقل القصة.
وعلى الرغم من حداثة وجودية السيرة والرواية وتقاربها الحضوري في الساحة الثقافية السعودية، إلا إن الرواية قد تجاوزت السيرة في التطور
وسجلت حضورا لافتا جعلها تحتل في وقتنا الراهن، صدارة المشهد الثقافي في الداخل السعودي في حين ظلت السيرة الذاتية تمشي بخطًى متثاقلة تكبلها ثنائية تابو (العيب والمحرم) وأعني بذلك العيب الاجتماعي والمحرم السوسيولوجي الجمعي وهو النابع مما اتفق على تسميته بخصوصية المجتمع السعودي، التي وإن أعتقد بعضهم بأنها قد سقطت، إلا إن الحقيقة إنها لاتزال تستبطن العقل الفاعل للفرد السعودي، وهي من توجه منطلقاته الثقافية وتكبل في أحيان أخرى انطلاقاته الأدبية.
فثقافة البوح ليست مما اعتدنا على أن يلامس أسماعنا، خاصة في ظل مجتمع محافظ كمجتمعنا المحلي، الأمر الذي جعل البدايات الأولى لهذا الضرب من الفن الأدبي تطل علينا في استحياء. و تمثل ذلك في أن بعض من عمد لكتابة سيرته الذاتية قد نحا باتجاه السطحية في التعاطي مع العديد من المتغيرات الاجتماعية والثقافية، في الوقت الذي عمد فيه لطرق تلك الجوانب المضيئة فقط من تجربته الحياتية ورحلته السيرية.
في حين أن محطات حياتية بعينها، تتسم بكينونتها المفصلية وتعطي للسرد السيري أبعادًا رحبة، وآفاقًا ثرية واسعة، وربما تتقاطع مع متغير اجتماعي ما، قد طال بأثره المكون البشري لهذا المجتمع، إلا إن مجمل هذه المحطات يتم إغفالها عن عمد؛ الأمر الذي يجرد الشهادة السيرية لمرحلة زمنية ما يكون قد عاشها السارد من التوثيق والرصد.
والحقيقة، إننا لو أمعنا النظر في مختلف زوايا المتغير الوجودي الداخلي، لوجدنا لهؤلاء الساردين ألف عذر وعذر؛ إذ إن هناك جملة من التابوهات تحيط بهم وتكبل بوحهم، وتمثل لهم قوة معيقة تلجمهم وتقيد في ذات الوقت نزعتهم للبوح والسعي لتحقيق واقع الإظهار التعبيري لحياتهم وتجاربهم الشخصية.
ومن تلك المعيقات ماهو اجتماعي كشيوع ثقافة العيب التعبيري في المجتمع، فكيف بمن يتحدث عن خصوصية حياتية تتعلق به هو شخصيًا. وهو ماكنا ولانزال -وإن عمدنا للإنكار- نرزح في قيوده، وأعني بذلك تعبير «خصوصية المجتمع»؛ والذي يراد به، أن مجتمعنا السعودي له جانب اجتماعي آخر لايتماهى مع الممارسة الشعبية المشاعة والسائد العربي بشكل عام. هذا إلى جانب أن إدراك الفرد لتبعات انعكاس وتأثير ممارسته السيرية الذاتية على الوسط العائلي الذي يعيش فيه، يشكل معيقًا آخر يحول دون اتجاهه للبوح الحقيقي والرصد التعبيري أو القولي لممارسات حياتية بعينها قد كان هو في مرحلة تاريخية أحد العناصر الفاعلة في صناعتها وتشكيلها.
وهناك من العوامل المعيقة مايمكن رده، لمراكز الضغط وقوى التأثير، إذ قد يكون لصاحب السيرة جملة من التفاعلات الثنائية وتجارب التعاطي الشخصي مع أيقونات ذات تأثير نوعي يتسم بقوة التأثير والاستمرارية بالحضور. الأمر يشكل معيقا قويا للسارد يحد من تداعيات الإِخْبَار المتولد لديه، بل إن خوفه مما قد يلحقه من تبعات وسلبيات وإشكالات عدة جراء كتابته السيرية المتطرقة لهكذا شخصيات نافذة وقوية ومؤثرة، يشكل إلجامًا لصاحب السيرة الذاتية يجعله يعمل جاهدا كي لا يتطرق أوحتى يقارب هكذا نقاط التماس.
بل أكثر من ذلك نجده يعمل جاهدا كي يتجنب التطرق إليها أو الإشارة إليها ولو حتى من بعيد، مخافة عواقب مثل هذا الصنيع على حياته ومستقبل المحيطين به، وهذا الأمر هو من أبرز المعيقات لاكتمال وشفافية السيرة الذاتية خاصة للأشخاص ذوي الثقل النوعي، والمؤثرين اجتماعيًا ومن كانوا ذات يوم يحملون مسؤولية ثقافية أو اجتماعية أو حتى سياسية كبيرة أو مكانة اعتبارية بعينها.
إن هذا المعيق الذي نطالعه والمتعلق بمدى صدق واكتمال البنية السيرية الذاتية، يواكبه في ذات الوقت معيق آخر يتعلق بالنقد السيري، فنحن نعي جيداً بأن التلازمية الأدبية الفنية تجعل من النقد صنوًا للإبداع بأنواعه المختلفة، وحينما تكون السيرة الذاتية في واقعها التشكيلي وبناها الهيكلية التركيبية التعبيرية مكبلة إلى حد ما بجملة من المعيقات؛ فإن النقد يكون في هذه الحالة سطحيا وانطباعيا إلى حد كبير وربما قد لا نتحصل منه على أي نتيجة بارزة تذكر.
إذ إنه في هذه الحالة يوشك ألا يلامس أي خطوط تأثير تذكر، لا على مستوى البنية الخارجية ولا المحتوى البنائي التشكيلي الداخلي للنص السيري الذاتي لكون المتحصل النهائي لهكذا ممارسة نقدية لا يكاد يتجاوز مجرد خطوطٍ عريضة فضفاضة لاتسمن ولا تغنى. ومن هنا يمكن للناقد الواعي أن يصدر حكمًا يتعلق بفن السيرة الذاتية مفاده، إننا إن شئنا أم أبينا فسيظل فن السيرة الذاتية في داخلنا السعودي يسير بخطى متثاقلة متباطئة في سعيه المطرد للتطور والتلبس بقميص الصدق طالما كانت التطورية الثقافية للمجتمع تسير على ذات المنوال.
وعند العودة لمصطلح السيرة والعمل على تفكيك بنيته الدلالية المغلقة، فسنجد العديد من المهتمين بالدرس النقدي، يؤكدون على إنه لم يتعرض جنس أدبي لسوء الفهم وكثرة التقديرات واللغط والجدل والمراجعة كما تعرض مصطلح السيرة الذاتية، ويعتقد العديد من المشتغلين بالحركة النقدية العربية، بأن شوقي ضيف هو أول من تعرض لهذا المصطلح النقدي الحديث عربيًا وتحديدًا في العام 1956م، فقد أسماه آنذاك « الترجمة الشخصية «، مكتفيا في تعرضه ذلك لهذا المصطلح بالدراسة التطبيقية ومشيرًا في ذات الوقت إلى أن العرب لم يبلغوا في صراحتهم في تجاربهم الشخصية مبلغ الغربيين على الإطلاق.
ويتقارب مع شوقي ضيف في أطروحته هذه المتعلقة بالسيرة الذاتية - إلى حد ما- محمد عبد الغني حسن الذي أشار إلى أن الأدب العربي لم يغفل بأي حال كتابة السير، وإنما هي بعينها التراجم المطولة المستقلة. فهو يرى بأن هناك ترادفًا بين ما أسماه شوقي ضيف «بالترجمة الشخصية» وبين مصطلح «الترجمة الذاتية»، فمن وجهة نظره، يرى بأن السيرة هي الترجمة. ويستدل على ذلك بكونه قد رجع إلى كتب الغربيين في هذا الفن، ونقل رأي الأديب الإنجليزي الشهير جونسون Johnson، حين قال: «إن حياة الرجل حين يكتبها هي أحسن ما يكتب عنه».
إلا إنه على الجانب الآخر، قد ظهرت جملة من الآراء النقدية التي تكاد أن تجمع على أنه ليس من السهولة بمكان أن نعيّن تعريفا إجرائيا لمصطلح السيرة الذاتية. فها هو يحيى عبدالدايم في دراسته الشهيرة « الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث»، يقرر بأن مدلول الترجمة الذاتية لا يقف على أرض مستقرة.
وهذا الرأي قد عززته بل وتكاد تجمع عليه أغلب الدراسات النقدية المتأخرة، التي ترى بأنه لا يوجد تعريف معياري Standard Definition، ملزم للسيرة الذاتية. بل إن محاولة تعريف السيرة الذاتية عبر تعريف جامعٍ مانع، هو في رأيهم «ضرب من المحال». وهذا التوجه بالتحديد قد عززته تلك الآراء التي تولدت عن المؤتَمِرين في المؤتَمَرين الدوليين اللذين عقدا خصيصا للخروج بتعريف إجرائي مقنن لهذا الفن الأدبي المثير للجدل.
هذا الأمر نلاحظه أيضا في الآداب الغربية ذاتها التي ولد وترعرع فيها هذا الجنس الأدبي. ويمكن رد ذلك في تقديري إلى أن السيرة الذاتية هي فن أدبي يتسم بحالة من التفرد والخصوصية الفنية التي تتقاطع مع الأجناس الأدبية الأخرى. الأمر الذي يجعل عملية التنظير فيه تقع بمنأى عن التطبيق. وهو ما دعا الكثير من المهتمين بالدرس النقدي للاعتقاد بأن هذه التنظيرات الغربية ليست سوى قراءات نموذجية لبعض السير الغربية ولذا فهي غير ملزمة على الإطلاق.
وهذا الأمر قد أثر تلقائيا في العديد من الدراسات العربية والمترجمة، وجعلها تنحو منحًا تطبيقيا مباشرا وبعيدا كل البعد عن لغط التعريفات المتضاربة التي تمثلت في تلك المحاولات المبكرة والأولى منها؛ التي تولد عنها خلط بين مفهومي «السيرة الذاتية» و«الترجمة».
وفي تقديري بأن الإشكالية المتعلقة بتحديد تعريف إجرائي دقيق لمصطلح «السيرة الذاتية» هو أن هناك فجوة بين جانبي الفهم الذهني وبين الممارسة الإجرائية. الأمر الذي أوصلنا لشبه حتمية تسليمية تلامس الشعور بالعجز عن الوصول لتعريف جامع مانع للسيرة الذاتية يستطيع أن يضعها في مكانها الصحيح ويضمن لها تفردها النوعي.
ويمكن للباحث أن يطالع العديد من التعاريف التي جربت أن توصِّف السيرة الذاتية من ذلك تعريف إحسان عباس في كتابه فن السيرة الذي أورد بأن السيرة الذاتية هي تجربة ذاتية لفرد من الأفراد. فإذا بلغت هذه التجربة دور النضج وأصبحت في نفس صاحبها تشكل نوعًا من القلق الفني، فلزام عليه حينئذٍ كتابتها.
في حين عرفها الناقد صالح الغامدي في كتابه المنعون بكتابة الذات بأنها تعد من أنواع الكتابة الأدبية، وتعني ذلك الفن الذي يسرد فيه الشخص سيرة حياته أو بعضًا منها. ويضيف بأنه يصعب علينا أن نحدد تعريفا معينا لهذا النوع الأدبي، وذلك عائد لكونه يتميز بأنه الأكثر مرونةً من الأنواع الأدبية الأخرى وأقل وضوحاً، فهي – أي السيرة - إما أن تتراوح ما بين سرد لأجزاء من حياة الشخص، أو عرضا ليومياته، أو اعترافاته الشخصية الخاصة.
ويرى البغدادي بأن السيرة الذاتية يمكن أن تعرف لغويًا بأنها طريقة عيش الفرد ونشأته وحياته، أما في الاصطلاح فيمكن لنا تعريفها بأنها وسيلة تمكن الفرد من سرده لقصة حياته الخاصة.
د.حسن مشهور
في حين أجدني أعرفها بأنها بوح سيري ترتفع درجة المكاشفة القصدية فيه وفقًا للمكون الانفعالي والسلوك الإجرائي للسارد، وكتابة غيرية تتناول مفصليات ومربعات معاشة من حياة أفراد آخرين.
إن الأدب السيرذاتي وإن كانت له تعقيداته ومعيقاته كما أوردت، إلا إن له جمالياته وحضوره النوعي، والذي سأسعى جادًا، في مقالات قادمة لعرضه وإخضاعه لمبضع النقد كي يمكن الإحاطة به بشكل يتسم بحضور الفائدة وتحقق الإمتاع، وهي أعلى الأهداف التي يسعى لتحقيقها الأدب.