د. شاهر النهاري
براعم نبتات وأزهار وأشجار فواكه تتولد من تربة حب، وتروى من مياه ولاء، وسط ذرات ثرى وأحجار صدق لا ترتوي بالمياه الصناعية، التي لا تنبع من جينات وقلب باطن أرض التجربة، وترابط المحيط، وأمان الوجود، والشعور بأن الجسد قطعة خير وبركة من الأرض المباركة، بتاريخها، خيمتها قبعة السماء، وفيضها يعجن خليطا من عظمة وجود لا ينفصل، وإن حدث البعد فسرعان ما تتذبذب الأعصاب وتشتد الريح، وتنقش علامات القلق والخوف على الجبين، ويعتصر الحنين مشاعر الأمس، تاريخ يسد السماء بالضيق، ولكنه يزول، بمجرد حضن أمومة وطمأنينة طفولة تربى بين المشاعر والأرض.
ليست كل الأراضي أوطان، فلكل قطعة أرض طعم وأنفاس ورجع محبة وعطاء وفداء من محبين لها كثر، لا يطيقون البعد عنها، ولا يرتضون أن يصيبها السوء، أو يحل بها دخيل، ولا أن تنتهي حكايات طفولتهم وشبابهم فيها بفراق يدفن عظامهم في غير ثراها.
كل أرض لها مميزات، وتحديات ولها منغصات وصعوبات، يرى الخارج عنها أسوأها، وينعم برغدها من يعش على غرام طينها ووقعها.
البعض يمتلك النفس القوية، والمغامرة التي تعشق المستحيل، وتبحث عن أرض جديدة، كما حدث لمن هاجروا لعوالم الأمريكيتين، وأستراليا الجديدة، فكأنما يبحثون عن حلم وأرض، تحبهم ويحبونها، تحضنهم ويحضنونها، تعطيهم ويعطونها، بعد أن شعروا فوق أراضي مولدهم بالصعوبة واستحالة التوائم، وعاشوا الخيانة، والقهر، وطمعوا في حياة حلم جديدة على أرض صفر بكر، تفتح لهم أياديها وقلبها، وتلك تجربة طموحة قاسية، خطيرة، وربما أن المشاعر في بداياتها ومع الأجيال الأولى لم تكن إلا مراحل هجرة وعناد وهروب، ومصارعة المجهول، حتى رسخوا في العناد، وامتلكوا قطعا من أرضها ورؤية جديدة في سمائها، تماثل حريات تمنوها أو تزيد، عجزوا أن يجدونها على أرض ضنت عليهم بالمساواة والمشاعر، فعاملوها بالمثل.
ترك الأرض ليست لعبة تستعاد نتائجها، ولكنها مصير لمن يحتاج أن يرحل تاركا خلفه ذكريات أليمة، وشح مشاعر، وأمل محبط، ويقين بضرورة وجدوى التضحية، وزرع الأبناء في مكان بعيد مختلف، يعدهم بالأكثر، حتى لو أتى ذلك على حساب جيل هاجر أولا.
الأرض غالية، وليس كل من سكن على قطعة منها يشعر بالأمان التام، ولا بكامل الرضا، ولا بعدالة الميزان، والخوف يحدو من يجد نفسه بين غزاة، أو قوانين لا ترحم، ولا تسمح له بفرجة حرية، فيرحل، مقامرا بكل ما يملك، مقابل رمية نرد مصير غير معلوم، وحياة قد تنجح، وقد تقنعه بالديمومة، حتى لو خسر كل مقتنياته، أو أن ينكسر، في عودة جبرية، يشعر أنها أفضل ألف مرة، من حياة غربة مستقبلية مجهولة لا مسارات طمأنينة فيها.
الأرض كينونة ولغة وسكن وعزوة وجماعة وتراث ومعتقد وطباع وعادات وتقاليد، وفنون، وثقافة متوافقة مع بدايات نمو البراعم من تربة هذه الأرض، ومع تمام سيقانها، وثمر أغصانها، وروعة أوراقها.
الأرض إيمان بالسمو والقدرة وضرورة التواجد والحماية والردع، لكل من يقترب من حياضها، وبذل دماء المبادرين بالفداء من أجل رسوخ وجودها، وإثبات صمودها، ورفع كلمتها وبيرقها على الجبين، وجعلها الأفضل، والأكثر متانة.
أكبر معاناة يعيشها البشر، هي الاحتلال لأراضيهم، وكونهم مضطرين للإطراق وثني رقابهم، والرضى بالظلم، وضيق الزنزانات، وانتظار المستحيل ليأتي، عبر عدالة السماء، أو يقين إنسان أنظمة العالم، حينما يحل عصر العدالة أو عودة القوة ولو بعد أجيال، كما يحدث في أرض فلسطين المحتلة.
الاحتلال كابوس مذلة، ونار جهنمية، ونقص في كل كمال، وزيادة في كل هم، وحيرة تنمو في القلب أعشابها الطحلبية والشوكية، ونظرة للأرض تغلي تحت القدمين بحسرة، والصبر يقاوم، والفكر يحاول الخروج من ممرات الضيق، والطفل يعرف أن خطواته محسوبة عليه، وأن مصيره الانكماش، إلى مراحل عدم الوجود، وضرورة الهروب، لمن استطاع إليه سبيلا، ومن لا يستطع يتشبث بمعتقده، أو يبيع عقله بثمن مهدئ أو مخدر، أو يفعل ما لم يكن ليفعله لو أن أرضه، حبيبة قدمه ويمينه وعينه وقلبه، ما تزال على وعدها معه بيوم مشرق تعود فيه الجذور إلى رطب الأعماق، وتنمو الأغصان، وتطرح الثمار، وتشرق الشمس، من خلف خضرة السهل، تبحث عن يد فلاح، وذراع محارب، وقدوم صانع، وريشة فنان.
من الصعب أن يفهم كل البشر حالة مواطن، إن لم يكونوا مغروسين جواره، يرتوون من نفس النبع، وتحت نفس أشعة الشمس، وبنفس حبور الطير، أو بما يعاني منه من جراح تجعله جناح دام أو رقبة بلا رأس، يفرفر بألمه اسم بلا عش.
الوطن كلمة قد تمر على من يجهل معانيها، وينكر، ويستهزئ، حتى يتفهم كل ما فيها من معان، وعليه أن يسأل المحتلة أراضيهم، وأن يستفسر من حرقة كبد المهاجرين، وأن يشرب الصورة الحقيقية على أرض التشرد، بين من يعيش ورطتين، يحاول العودة لأرضه مجبرا منكسرا، ولو بعد عمر من شقاء الزمان، ويكون قد قطع الجذع القديم، وخلس الأغصان عن البراعم والزهور المستقبلية، حكاية تموت، كما نبتة أشواك شيطان في الصحراء، تقذفها الرياح، كل لحظة في اتجاه، حتى يغدو فتاتها مجرد هباء وسط ذرات الصحراء، لا ثبات ولا حياة ولا خلود.
ختاما كم هو محظوظ من وجد وطنه يحمله نعمة على أكف السعادة والأمان، وكم هو تعيس من يظل يجري مرتعبا يحمل وطنه فوق فقرات ظهر مشاعره المنكسرة، ودون أن يتحقق له لقاء مع وطن حب معانيه.