أ.د.صالح معيض الغامدي
كثيرا ما أسأل عن ضوابط السيرة الذاتية وشروطها، وتكون إجابتي الأولية العامة بأن السيرة الذاتية ليس لها معاييرأوسمات عامة واضحة وقارة مثل غيرها من الأجناس الأدبية مثل الرواية والقصة القصيرة والشعر مثلا، باستثناء كونها تسجيلا أمينا وصادقا لتحارب الفرد الحياتية الماضية. وهذا الحال قد يكون مظهرا إيجابيا لهذا الجنس الأدبي أو مظهرا سلبيا بحسب تفسيرنا له وموقفنا منه على مستوى كتابة السيرة وعلى مستوى قراءتها ونقدها. فالبعد الإيجابي له (وهو ما سيركز عليه هذا المقال) هو أن كاتب السيرة الذاتية متحرر من القيود الأجناسية الثقيلة التي قد تكبل إبداعه الفردي أو تلزمه باتباع نموذج سيرذاتي معين، وبإمكانه أن يختار الطريقة التي تناسبه وتناسب تجاربه الحياتية، وكذلك إمكانياته الأسلوبية الخاصة.
فمن حيث الشكل أو البنية، يستطيع كاتب السيرة الذاتية توظيف السرد التدرجي ( الكرونولوجي) حيث يبدأ في سرد حياته من الطفولة إلى زمن كتابته سيرته الذاتية، وقد يكون مرتكز هذا السرد التدرجي هو الأمكنة التي عاش فيها أو مراحل حياته، أو تكون هذه البنية مرتبطة بمراحل دراسته وتعليمه، أو بالأعمال والوظائف التي قام بها في حياته، أو بأي مكون آخر يراه مناسبا للسرد الزمني. وقد يستعين في هذا ببعض التقنيات الرواية مثل الاستباق والاسترجاع…إلخ.
ويمكنه كذلك تبني الأسلوب المتحرر أو المتشظي في كتابة سيرته الذاتية، كأن يوظف الأسلوب المقالي ويسرد سيرته عى شكل مقالات أو فصول قصيرة تكون بعناوين مختلفة وموضوعات وتجارب محددة في حياته، وهذا الأسلوب يمكنه من تفادي إكرهات الأسلوب الكرونولوجي التاريخي وقيوده الذي يتوقع منه أن يسرد كل شيء ويكون مجال القفز فيه عن سرد بعض تجاربه التي لا يرغب في سردها أمرا مكشوفا ومثيرا لتساؤلات القراء. وهذا الأسلوب قد يناسب الكتاب ذوي النفس القصير في الكتابة، وكثيرا ما نجده يوظف في السير الذاتية النسائية حيث يكثر الانتقاء والانتخاب للتجارب المسرودة فيها.
ويمكن لكاتب السيرة الذاتية أن يستعمل الأسلوب الأدبي الرفيع في كتابته وأن يستعين بقدر معين من الخيال لكي يضفي قدرا من الجاذبية والتشويق على سيرته الذاتية، على أن المبالغة في ذلك قد تصرف بعض القراء عن القراءة .
كما يمكن للكاتب أن يوظف أسلوب الرسائل في كتابة سيرته الذاتية، كأن يجعل سيرته سلسلة من الرسائل الموجهة إلى متلقين حقيقيين أو افتراضيين. وقد تكون السيرة موجهة للأبناء والأصدقاء وغيرهم.
وبإمكان كاتب السيرة الذاتية أن يكتب سيرته الذاتية بضمير المتكلم كما جرت العادة أو بضمير الغائب أوحتى بضمير المخاطب. ولكل ضمير أو وجهة نظر سردية مزاياها وربما عيوبها، فضمير المتكلم يعلي من مصداقية السيرة الذاتية، ولكنه قد يوقع الكاتب في نوع من النرجسية التي قد لا تكون مقبولة، وضمير الغائب قد يضفي على السيرة الذاتية بعدا موضوعيا ويترك مسافة بين الكاتب/السارد والكاتب/البطل في السيرة، تمكنه من التأمل في أحداث السيرة وتجاربها ومن التعقيب والتعليق عليها، ولكنه إذا بولغ في توظيفه قد يفقد السيرة مصداقيتها وحرارة العاطفة فيها. وعلى الرغم من ذلك فإن توظيف ضمير الغائب لا يدل دائما على تواضع الكاتب، ولا توظيف ضمير المتكلم يدل دائما على نرجسيته. فقد نجد التواضع في السير التي توظف ضمير المتكلم والنرجسية في السير التي توظف ضمير الغائب.
أما توظيف ضمير المخاطب في السيرة الذاتية فنماذجه قليلة وكثيرا ما نجده في السير الذاتية الروحية أو الدينية، وميزته الرئيسة هي أنه يشرك المتلقي في التجربة الحياتية المسرودة وكأنه البطل الثاني فيها، مما يؤدي إلى اندماج المتلقي بصورة أكبر في السيرة الذاتية وانجذابه إليها وتفاعله معها.
ولكاتب السيرة الذاتية أن يكتب عن تجاربه الحياتية كلها، أوأن يكتب عن مرحلة محددة منها مثل مرحلة الطفولة، أوالشباب أو غيرها، وقد يلجأ الكاتب إلى الكتابة التحقيبية للحياة لأسباب عديدة تتعلق بخيارته هو.
وقد يكتب الكاتب سيرته الذاتية دفعة واحدة أو مفرقة وموزعة كما فعل غازي القصيبي، حيث يتناول كل جانب من حياته في كتاب مستقل.
وقد يجعل الكاتب تجاربه الذاتية المرتكز الرئيس لسيرته ويهمل ما عداها، وقد يوازن بين تجاربه الخاصة وتجارب الآخرين الذين اتصل بهم وتكون سيرته متضمنة شهادته على العصر!!
والحقيقة أن الإمكانات المتاحة لكاتب السيرة الذاتبة والحرية التي يمتلكها في كتابة سيرته الذاتية لا يمكن حدها أوحصر أبعادها، ومجال الكتابة في السيرة الذاتية مجال مفتوح وواعد لكل راغب في كتابة سيرته الذاتية، وما عليه إلا أن يحرص على التركيز على خياراته هو في الإبداع السيرذاتي، وهو ليس ملزما بتقليد هذه السيرة أو تلك مهما احتفي بها، إذ بإمكانه دائما أن يفاجئنا بابتداع طريقة جديدة ومثيرة لكتابة سيرته الذاتية. وربما تكون خير خاتمة لهذا المقال هي أن نقول لكتاب السيرة الذاتية المحتمل «كن نفسك واكتب ذاتك» فقط!!