محمد آل الشيخ
نشبَ في إحدى ولايات الجزائر في الأسبوع الماضي صراع مذهبي جديد بين أهل السنّة من المذهب المالكي، وبين الأقلية الأباضية هناك، وهي من الفرق الإسلامية الصغيرة التي مازالت حية، إضافة إلى السنّة والشيعة. والتغير النوعي في هذا الصراع الجديد يعود إلى أنّ المذهبية تحولت إلى هوية دينية، لا تقبل غيرها كتفسير حصري للدين. وهو ما حصل في أوربا في عصورها المظلمة بين المذاهب المسيحية إبان حروبها الدينية؛ وليس لدي أدنى شك أن الصراع إذا لم يتم تدارك أسبابه وبواعثه، سيستمر ويستعر أكثر ليعصف حتى بمذاهب أهل السنّة أنفسهم من الداخل؛ فالتاريخ يشير إلى أن مثل هذه المماحكات بين الأحناف والحنابلة من أهل السنّة مثلاً، وصلت إلى درجة التكفير - (راجع كتاب «السنّة» لعبدالله بن أحمد بن حنبل، تحقيق محمد بن سعيد القحطاني) - وكذلك بين الشوافع والأحناف. وفي تقديري أن هذا التاريخ سيُعاد إحياؤه في ظل هذه الأجواء المشحونة بالتعصب المذهبي؛ فمثل هذه الصراعات تبدأ بين الفرق والنُّحل أولاً، وتنتهي بالصراعات بين مذاهب الفرقة الواحدة، والمبرر دائماً هو نفس المبرر، وفحواه أنّ هؤلاء يرون أولئك ليسوا على النهج القويم، وبالتالي يجب حربهم وقتلهم حتى يذعنوا للحق الذي يرى كل طرف أنه يملكه ولا يملكه أحد سواه.
ولأنّ القضية قد تتطور إلى صراعات دموية، تستمر لعقود، ولأنها ليست قضية تقتصر على هذه الدولة دون الدول الأخرى، فلا حل إلا المواجهة الجماعية؛ فكل الدول الإسلامية التي تتكون تركيبتها السكانية من أكثر من مذهب أو طائفة ستكون معرضة بطريقة أو بأخرى إلى هذه المخاطر، لذلك لا بد أن يكون الحل على مستوى الدول الإسلامية وغير الإسلامية أيضاً جمعاء؛ وفي تقديري أن (منظمة التعاون الإسلامي) بجدة هي الجهة ذات الصبغة الحيادية الإسلامية، وغير المحسوبة على مذهب بعينه، التي يمكن لها أن تضطلع بهذا الدور، وأن تعمل على إنشاء استراتيجية ذات منظومة متكاملة وشاملة، ومن ثم يتم تفعيلها، على أرض الواقع لتكريس مبدأ (التعايش رغم الاختلاف) بين الطوائف وكذلك بين المذاهب والفرق الأخرى. كذلك فإن المجمعات الفقهية، يمكن لها أيضا أن تساهم من خلال الفتوى الجماعية بترسيخ التعايش ومحاصرة هذه الفتنة التي إذا تركت نيرانها مشتعلة، فلن يسلم منها أحد، حتى الدول غير الإسلامية، والتي يعيش فيها طوائف مسلمة، لن تسلم هي الأخرى من هذا الوباء. بمعنى أن هذا التعصب المذهبي إذا استشرى، وتُرك دونما علاج ومقاومة، فسوف يتحول إلى حريق في كل دول العالم، يلتهم الأخضر واليابس.
وكلنا يعرف، ولم يعد سراً، أن جهات مخابراتية دخلت على خط الصراع المذهبي، وراحت تصب مزيداً من الزيت على النار ليزيد اشتعالها، لتحقيق أهداف تخدم أجنداتها السياسية. إضافة إلى أن الإرهاب الآن اتخذ توجهاً مذهبياً صرفاً، وليس دينياً كما كان في الماضي القريب؛ وهناك شكوك لها ما يبررها، أن ظهور منظمة (داعش) فجأة كان وراءه منذ البدء جهات مخابراتية. ومعروف تاريخياً أن المخابرات العالمية تستغل كل الوسائل لتحقيق أهداف دولها. فمثلاً أول من أشعل (الجهاد) في أفغانستان كانت المخابرات الأمريكية (CIA) في حربهم ضد السوفييت بعد احتلالهم لأفغانستان، وحينما انسحب السوفييت من أفغانستان، وتفكك الاتحاد السوفييتي، وانتهت الحرب الباردة، أراد الأمريكيون أن يرموا المجاهدين على قارعة الطريق، وهم لا يتقنون عملاً ولا مهنة غير القتال والجهاد، فانعكس السحر على الساحر، والتفتت الأفاعي على الحاوي، ونشأت حرب حقيقية وليست باردة أخطر وبمراحل من تلك الحرب الباردة بين المعسكرين.
فأمريكا هي من بدأت المأساة، وهي التي تستطيع أن تنهيها، من خلال المنظمات الدولية والعمل الجماعي غير المسلح؛ ولا شك أن أمريكا لو رغبت ورمت بثقلها في هذا الاتجاه، فإن بالإمكان محاصرة هذه الثقافة دام أنها في بدايات اشتعالها قبل أن تفلت الأمور, وتخرج عن السيطرة. فالجميع دون استثناء من مصلحتهم وأد هذه الفتنة في مهدها قبل أن تستفحل.
إلى اللقاء..