د. حمزة السالم
نكتة فكاهية ألقاها الدكتور الفاضل عبد الرحمن الزامل في مؤتمر، سمعتها ففهمتها فضحكت منها. وبعد عقد من الزمان أدركت معناها حقيقية فعجبت من سذاجتي، كيف أضحكني ما يبكيني اليوم. فقد ارتقى دكتورنا الحصيف المنبر بعد تقديم طويل قدّمته رئيسة الندوة عن تعداد مجالس الإدارة التي يرأسها زميله المشارك له. ارتقى المنبر الدكتور الأمين اللاذع في نقده، وقد تطايرت عمامته في أربعة اتجاهات، فانطلق كفارس أضر به طول عقال فرسه، فقال بلا مجاملات ولا تشكرات: «يا إخوان، لو سردت رئيسة الندوة الفاضلة، مجالس الإدارة التي أرأسها أو التي قد رأست أو شاركت في عضويتها، لانقضى يومنا، وهي لم تنته بعد من السرد. ولكن ، يا إخوان، لا يغرّكم هذا مني، فرئيس مجلس الإدارة ليس إلا معقب يعقب المعاملات»، فانفجر الحضور ضاحكين، ولكن من كان يدرك أنّ كلام فارسنا الزامل أبعد تخصيصاً من زميله الذي بجانبه.
ليست كل معايير الغرب معايير لنا. ففي الغرب والشرق، المتقدم حضارياً والخالي من الفساد والمحسوبيات، لا يصل لمجالس الإدارة غالباً إلا من هو أهلٌ لها، سواء أكانت بالأصالة عن نفسه أو بالنيابة عن من يستحقها وليس بأهلٍ لها. فملكية الشركة أو الأسهم في العالم المتقدم، لا تأتي غالباً إلا ممن بنى هذه الشركات عادة. فإن حصل أن امتلكها صغير أو سفيه أو عدم قادر، فإنه يوكل عنه من هو قادر على ملاحقة مصالح الشركة، أو تراه يستأجر مستشارين خاصين له يلقِّنونه القول ويملون عليه الرأي. وأما مجالس المنظمات والوزارات الحكومية فهي تبع لكفاءة تعيين المناصب في الأصل.
وأما في بلادنا عموماً، فإنّ غالب مجالس الإدارات للقطاعات العامة والخاصة، رئيساً أو أعضاء، هم إما مُلاّك أسهم فيها إن كانت شركة أو موظف يكافأ على خدمة خاصة قدمها، أو يكون مغضوباً عليه والعضوية لا نفع منها، فيُعين عضواً في المجلس كعقوبة له أو عقوبة للقطاع الذي يتعلق به اللجنة أو المجلس. وأما ما عدا ذلك من المستقلين من الخارج فهم عادة بصمجية سُذج اُختيروا بعناية، أو بصمجية يتقاسم مكافآت مجالس الإدارة معهم من أوصى بهم.
ونحن العرب لا نعتذر عن كرسي مطلقاً، فقاعدتنا الذهبية هي أن العمل ماشي، لن يتوقف، بك أو بغيرك. وأما العرف فهو أن الذي أوصى بك فقد حملك الجميل والفضل، وعليك دين يجب رده يوماً ما. والمفترض هو العكس، فصاحب الفضل والمنّة هو الذي يقبل بالتعيين في مجلس إدارة أو في لجنة أو في منصب. ولكن هذا غير منطبق عندنا. فعضوية اللجان والمجالس أو رئاستها، هي مجرد «طك حنك» في الغالب، لا تكلف العضو أو الرئيس إلا مجرد الحضور. فلا يهم ماذا تقول، المهم أنك تقول شيئاً، طالما أنك لا تعارض وتُبصم، ولو تتحدث في الأمطار والخير واجتماع اللجنة لتقرير دخول صناعة نووية.
وهذا العضو الذي يتحدث في الأمطار والخير بالذات هو المُفضل، في عضوية اللجان والمجالس. بل لقد رأيت مثل هذا يتجاوز العضوية ليستلم مناصب عالية مهمة. وهنا السؤال الذي سيطرحه أي قارئ: وكيف يمكن التوصية به وهو قد كان أضحوكة اللجان والمجالس، رغم أن كثيراً من المجالس واللجان هي كلها أضحوكة في الغالب. فكيف يصبح أضحوكة المهرجين، رئيساً مبجلاً وتنفيذياً كبيراً. والجواب سهل. فأمثال هذا يصل للجان بوراثة إرث أو بتوصية مُنتفع أو مُحسن، فإذا به يجتاز اختبارات توسعة الخاطر والبصمجة بامتياز، فإذا جمع إليهما شرط الانضباطية في المواعيد والالتزام بالشكليات، تراه يطير على أيدي المستنفعين ينقلونه من مكان إلى مكان، ثم وبحسب وظائفه «الصورية أو الوهمية» فتراه عضواً أو رئيساً في لجان ومجالس لا يعرف حتى مفهوم اسمها ومضامينه. فعندها يتمكن المتغلغلون من التوصية به بحجة رئاسته لمجالس كثيرة وعضويته في لجان ومجالس، لا تراه يُحيط بتعدادها كتاب.
بما بدأت به، فأقتبس من عبارات الدكتور عبد الرحمن الزامل اللاذعة فأقول: يا أحبتي لا تغرّنكم من شخص ولا يغرنكم في أحد كثرة مناصب ولا تعداد عضوية مجالس إدارات شركات، فهي أحرى أن تكون مجالاًً للشك في أهليته. فالخبير الذكي الأمين لا يرضى أن يشغل مناصب وعضويات مجالس ولجان في الشركات دون القيام بحقها. فمن كثرت مناصبه وعضوياته في اللجان والمجالس، فهذا دليل على بصمجة أو قلة أمانة. فكيف يصبح كثرة عضوياته ومناصبه حجة يتسلل منها المستنفعون للتوصية به. يا أحبتي، ليكن أحدكم مستنفعاً إيجابياً، لا سلبياً، وليكن أحدكم شفيعاً ولكن لا يتشفع بتنصيب من يطحن الكفاءات السعودية الشابة بحسده ويضيع العقول السعودية الشابة بجهله.