د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
لا يحتاج المرء لأن يصف تفجير جامع القديح بأنه جريمة فهو أكثر من جريمة وقتل متعمد لمسلمين عزل في بيت من بيوت الله. وهو يدل بوضوح على الخلل الفكري والعقدي ليس لمن نفذه فقط بل لمن حرض عليه وشارك فيه؛ فجهنم وبئس المصير أعدت لمن يزهق حياة نفس بشرية مسلمة أو غير مسلمة بغير حق..
ولذا لا يمكن أن يكون هذا عمل من يريد رضى الله وجنته. بل إن الله نهى عن قتل البهيمة بغير سبب فما بالكم بقتل البشر. فدين الإسلام هو دين السلام، السلام فيه هو الأصل والحرب هي الاستثناء. والإسلام أتى لهداية البشر ومنعهم مما كانوا فيه من اقتتال وفوضى وجاهلية.
لماذا بلاد الإسلام فقط هي ما يشهد هذا الكم من الاقتتال في جميع مناطقها تقريبا؟ ومن المسئول عن هذه الفوضى السياسية والاجتماعية التي تعم بلاد المسلمين؟ ولماذا يسهل لأجهزة المخابرات بكافة توجهاتها وكافة بلدانها، مسلمة وغير مسلمة، التلاعب بالشباب المسلم بهذا الشكل المفجع؟ وكيف تطورت بنا الأمور لهذا الحد الذي يجعل كثيرا من شبابنا يفجرون أنفسهم على هذا النحو في أبناء دينهم، وفي دور عبادتهم؟ ومتى أصبح الانتحار سلاحا جهاديا إسلاميا؟ أليست هذه مظاهر جاهلية تتلبس لبوس الإسلام؟
هذه الأسئلة لا بد من الإجابة عنها للخروج من المأزق الديني المذهبي الذي زُج بعالمنا الإسلامي فيه، فما نعيشه اليوم من مآس هي تطبيق متطرف لإرث شعوبي وصراعات مذهبية كانت هامشية في أهميتها فأتى من ينبشها وينزلها منزل الأصول ويحرض على التمسك بأدق تفاصيلها ويكفر من يخالفها. والجزء الآخر تتحمله بعض الجهات الدينية المتطرفة التي أحيت هذا التراث وأضافت عليه كثيرا من المبالغات وحولته لإيديولوجيات قاتلة غسلت به عقول شباب مُجهّل يصدق بشكل أعمى. فالمشكلة في عمقها أزمة فكر وثقافة، فالتاريخ الإسلامي اليوم يستحضر لينبش أسوأ ما فيه.
كثير من الذين حرضوا على القتل، وبالطبع لم يُقتلوا وتابوا إلى الله راجعوا قناعات لهم مسبقة وتبرؤوا منها ويسألون الله اليوم الصفح عما ارتكبوه في حق شباب غرروا بهم، شباب وعدوهم الجنة وزينوا لهم الانتحار وهم يعلمون أن علم الجنة عند واحد الأحد، ونحن بالتأكيد لا نعرف مصير من انتحر لأن علمه عند ربه، ولكننا نعلم أنه لن يعود للحياة مرة أخرى للصفح عمن حرضوه على فعله وتابوا فيما بعد، وهؤلاء لهم حساب عسير عند ربهم، فالمحرض كالقاتل. والتطرف والتحريض من جميع الطوائف يهيئ شبابا مشحونا بكراهية الآخر وكراهية الحياة التي تجمعه به، والمخابرات المتربصة بما لديها من خبرة تتلقفه وتجهزه لأهداف لا علاقة بها بالدين. فكثير من أعمال الارهاب والتفجير تقف خلفها مخابرات جهات مستفيدة منها. ومحتمل جداً أن ينطبق ذلك على تفجير القديح، فقد اكتشفت الجهات الأمنية في المملكة قبل ذلك بأسابيع متفجرات تهرب عبر حدودها من دولة مجاورة. ورغم ادعاء جهة بعينها هذا التفجير فقد يكون ذلك نتيجة لتنسيق مسبق مع استخبارات دولة مجاورة تحاول زعزعة استقرار البلاد.
ذكر لي أحد المشايخ المعتدلين أيام الجهاد الأفغاني أنه استغرب أن زاره أكثر من زعيم أفغاني في أسبوع يطلبون الدعم لميلشياتهم، وعندما سألهم عن بعض رفاقهم في الجهاد سمع منهم كلاما غير لائق واتهامات لبعضهم البعض الآخر لا علاقة لها بالجهاد، فسألهم مجدداً: جهادكم واحد، وعدوكم واحد، فلم قلوبكم وأهدافكم شتى؟ الجهاد الأفغاني أفرز زعماء جهاد على قدر كبير من الثراء فيما بعد الحرب، وهم يعرفون بأمراء الحرب. وبعضهم باع من قاتل معه لأمريكا بحفنة من الدولارات. ففي الحروب، وخاصة تلك التي طابعها الفوضى تنقلب المعايير الاجتماعية وتختفي الأخلاق، وما نشاهده اليوم من عشرات الحركات الجهادية التي تتصارع فيما بينها: داعش، الجهاد، النصرة الخ. هي تكرار لهذه الظاهرة. وقد تقدم داعش خدمة لجهة خارجية ما مقابل المال. مال يحصل عليه قادتها دون علم راجلتها، فالجنود الراجلة تعتقد أنها تجاهد في سبيل الله ومن أجل الآخرة وقياداتها، التي في العادة أذكى وأقدر على التفكير، تقاتل لأهداف دنيوية لا تختلف كثيراً عن أهداف الطغم العسكرية التي تدعي محاربتها.
لا شك أن منطقتنا تعيش حالة من الفوضى السياسية والمذهبية العارمة، وما نشاهده من اقتتال لا حصر له هو النتيجة الطبيعية لهذه الفوضى، والخروج من حالة الفوضى هذه لا يمكن أن يكون إلا في إعادة تثقيف الشباب في أمور دينه ودنياه بعيداً عن الاجترار والتبعية الفكرية. لا بد من تحكيم العقل فيما ينقل لنا على أنه حقائق تاريخية مطلقة وهي أشبه بالأساطير التي تخالف روح الإسلام وأسسه كما وردت في الكتاب والسنة المثبتة المتفق على صحتها من كافة الأمة. وهنا يجب الفصل بين ما هو من الله ورسوله في التاريخ الإسلامي وما ورد في الأثر من آراء بعض الأئمة الذين ظهروا في خضم سياقات صراعات تاريخية سياسية معينة دفعتهم لكتابة ما كتبوه حينئذٍ إرضاء لفئات سياسية ولا ينطبق على واقعنا اليوم، ولكن يتم النظر له اليوم على أنه يقوم مقام العقيدة التي وردت في الكتاب والسنة ويسقط تعسفاً على واقعنا. ومما يؤسف له أنه رغبة بعض الأنظمة لتصدير ثورتها وإعادة مجدها عبر الصراعات المذهبية دفعها للعودة بالأمة لصراعاتها الخلافية الأولى لتحاول عبر مأجوريها ومخابراتها خلق أجواء سياسية تاريخية شبيهة بتلك التي أججت الصراعات المذهبية من قبل. ولذا فهي تبث الحياة مرة أخرى في النصوص التي دعمت اقتتال المسلمين وفرقتهم. فالصراعات على الخلافة في العصور الإسلامية المبكرة والفتن التي صاحبتها ذهبت وولت ولكن هناك من يحاول بعثها من جديد من خلال إسقاط بعض مصطلحاتها الغابرة على الصراعات العرقية والسياسية المعاصرة، وهنا مكمن الخطر.
فعندما تلبس الصراعات السياسية لبوس الدين والمذهب يتحول التكفير إلى سلاح سانح لاستهداف من يعارض السياسات. ولذا فمن الملاحظ أن جميع المليشيات الطائفية، بل الميلشيات من طائفة واحدة أحيانا تعمد لتكفير بعضها البعض الآخر ليس بسبب الدين بل لمصالح أخرى. فالركائز الدينية، وأركان الدين واحدة وواضحة بشكل لا لبس فيه لأن التاريخ حافظ عليها لأهميتها، ولكن النوافل والفروع التي تدور حولها خلافات اليوم غير جوهرية في غالبيتها. فالرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام، وخلفاؤه الراشدون رضوان الله عليهم كان لهم مذهب واحد فقط هو الإسلام ولم يقتتلوا حتى وإن اختلفوا، وظهر الاقتتال في الإسلام بعد تسييس الدين واستغلاله لغير ما أنزل له. فلا بد من وقفة جديدة متعقلة مسئولة أمام الموروث الديني للوقوف على أسباب فرقة الأمة وتبيانها للشباب الذي يجهلها. ولا يخامرني أدنى شك بأن من فجر نفسه في القديح، وقبله من اعتدى على رجال الأمن، مختل العقل والتفكير، ولو كان به ذرة من عقل لفكر في عواقب فعلته. ولكن هناك من المحرضين من يعون ما يفعلون، وهم يتعاملون مع التحريض بمنتهى الانتهازية ولا يهمهم كيفية الحصول على مبتغاهم، وهؤلاء هم الخطر الحقيقي وهم من يجب إيقافه. والهجوم على القديح لمن حرض عليه استهدف المملكة ككل بكل طوائفها وليست طائفة بعينها، استهدفها في أمنها وسلمها، ونحن جميعنا نقف وقفة واحدة مع إخوتنا الشيعة ممن فقدوا أعزاء وأحباء لهم نحسبهم عند الله شهداء لأنهم قتلوا في بيت الله في يوم فضيل، ومصابهم مصابنا وعزاؤهم عزاء لنا، حفظ الله الوطن من كل مكروه.