د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تطوير التعليم لدينا تحول لأحجية تثير تساؤلات أكثر مما توجد إجابات. نصرف مبالغ طائلة على التعليم بمراحله كافة ونشتكي دائماً من سوء مخرجاته. وربما تكون كلفة الطالب المادية في مراحل التعليم لدينا، العام والخاص، من أغلى الكلف في العالم وتقارن فقط بمثيلاتها في دول العالم المتقدم،
ورغم ذلك لا نرى انعكاسًا لذلك على نوعية التعليم التي تقارن فقط بدول العالم الثالث الذي تفتقر الموارد للتعليم. فربط الصرف على التعليم بتحسن مخرجاته ليس ضرورة منطقية ما لم تتوفر كوادر تدير هذه المال بكفاءة تضمن حسن التصرف والاستفادة منه.
تفننا في أنواع الخطط والمشاريع التطويرية، التي تكون أحياناً طفروية، التي اقترحها وزراء ومسئولون تعاقبوا على التعليم، وفي كل مرة نبدأ من الصفر مرة أخرى وكأنك يا أبو زيد ما غزيت. فالرقابة اللاحقة لا تعنينا رغم أن بعض الخطط التي طبقت ربما لم تستوف الشروط الموضوعية للدراسات والخطط وتقترب من المثاليات والتوقعات التي يظهر لاحقاً أنها كانت غير واقعية ومحالة التطبيق، فيتحول التفاؤل المفرط الذي أحيطت به عند اعتمادها إلى تشاؤم مطبق. وبتكرار هذا السيناريو أصبح البعض يجزم أن أدواء تعليمنا تستعصي على أي دواء. ونكتشف أحياناً أن أموالاً طائلة تبخرت بلا تقويم ولا دراسات موضوعية شفافة تجعلنا على أقلها حال نستفيد من أخطائها وأماكن القصور في وضعها أو تنفيذها. وفي أسوأ الأحوال اكتشفنا أن بعضها -وللأسف- لم تتجاوز الفرقعات الإعلامية والمبالغات التي أعطت الأمور أكثر من حقها. فنحن عادة نتكلم عن النوايا والمصروفات ونهمل النتائج.
ولو ألقينا نظرة على الأهداف المعلنة للتعليم العام لدينا، وهو أمر سبق وتطرق الكاتب له، لألفيناها مجموعة من المثاليات الإنشائية التي لا يمكن ربطها بخطط واقعية، وهي تقدم خدمات خطابية لما نراه ثوابت في مجتمعنا بشكل يجعل التطوير مع ذلك مستحيلاً. نعم يجب الحفاظ على ثوابتنا وخاصة تلك المرتبطة بديننا، ولكن الكون يتغير من حولنا والتغير هو من أثبت السنن الكونية التي سنها من أنزل لنا ديننا وأقر لنا أسلوب حياتنا، والثوابت مع ثباتها تتجدد وتتأقلم في علاقاتها مع المتغيرات الكونية من حولها، وكذلك في أساليب الحفاظ عليها، وما تجب إعادة النظر فيه هو أن عالم اليوم مختلف بشكل جذري عن عالم السلف، والتوسع بشكل غير العقلاني في الاجتهادات والإسقاطات يزيد الأمور ضبابية ويخلق ازدواجية في التفكير. فنحن نعرف اليوم، ونكتشف نواميس كونية جعلها الله في الطبيعة لم تكن معروفة من قبل، والعلم يتغير كل ساعة، والله يأمرنا بالتفكر والتدبر في كونه. وكذلك نعرف اليوم، وهذا أمر إلهي جعله الله من طبيعة الإنسان وعقله وفؤاده، أن أساليب التلقين والحفظ والتقريع غير مجدية. وأن حشو عقول الطلاب بأمور تتعارض مع واقع ما يعايشونه من تطور علمي ومعيشي خارج المدرسة يشوش أساليب تفكيرهم ولا يضيف لهم ولا لإخلاقهم شيئاً بل يجعلهم في حلة اغتراب تام عن واقعهم. فالله جل وعلا هو من وضع النواميس العلمية العقلية في هذا الكون، وهي الثابتة برهاناً، والنصوص التي تخالفها تحتاج لمراجعة صادقة وأمينة، فأساس العلم هو الاكتشاف والتجريب والموضوعية.
الأمر الآخر هو الاعتقاد أن علاج أدواء تعليمنا بيد الأجنبي، وأنه هو الوحيد الذي يصدق في تشخيص عللنا ويستطيع رسم خطط تطورنا. ولذلك تعج وزاراتنا وجامعاتنا بالمؤتمرات، والندوات، والخبراء، والضيوف والاستضافات ولكن بدون إضافات حقيقة تذكر غير إضافة مصداقية وهمية لأجندات ومصاريف داخلية. وبدلاً من أن تطور هذه الأنشطة التعليم طورت شركات الدعاية والإعلام والشركات المنظمة للندوات، حتى قيل إن بعض هذه الشركات تدل وكلاءها على ضيوف محترمين مشهورين لمؤتمراتهم. والنتيجة أحياناً لاستجلاب بعض من يسمون «خبراء» و»خبرات» دولية هي الإساءة للخبرات المحلية القادرة بإشعارها بأنها ليست كفؤة أو محل ثقة. وقس على ذلك الإدعاءات المتواصلة بوصولنا للعالمية وكأنها هي هدف التعليم الأول وليست الأهداف المحلية التنموية. ولم أتطرق للتصنيفات وغير ذلك من الأمور التي مل الناس من سماعها.
كما أننا أسسنا جامعات قبل توفير كوادر لها، أي وضعنا العربة أمام الحصان، ثم استمات المسئولون عنها لتعويمها، وأهملت هذه الجامعات، وكذلك بعض الجامعات القديمة، أهم أمور تصب في صلب العملية التعليمية وهو التخصص في التعليم والبحث، فنسبة كبيرة من منسوبي التعليم يمارسون أعمالاً خارج تخصصاتهم، والرقابة شبه معدومة على تنسيق التخصصات حتى عند الابتعاث الجامعي، ومتابعته فيما بعد. والحقيقة أن انعدام الانضباط في الابتعاث الجامعي، وانعدام الرقابة العلمية عليه سواء من حيث التخصص أو الجامعات يعد في نظري أهم عوامل تدني المستوى التعليمي التي يبحث الخبراء المستوردون عن علاج له.
بالطبع اكتشفنا أن وضعنا لا يرقى لطموحنا فاستقدمنا شركات تطوير وهيئات اعتماد من مختلف أنحاء العالم ودفعنا لها الغالي والنفيس لعلها تجد حلولاً لقضايا النهوض بتعليمنا ونسينا في هذا الشأن خصوصيتنا التي نتغنى بها في كل مكان، وتناسينا أن مشكلات تعليمنا هي من صنعنا نحن ولا دخل للأجنبي فيها، وباستقدام الأجنبي أهملنا كثيراً من العاملين الغيورين القادرين داخل مؤسساتنا التعليمية ذاتها على تطويرها، وهم أدرى بشعابها ودهاليزها. وبكل شفافية وصراحة يستغرب كثير من المراقبين وصول بعض أعضاء السلك التعليمي لمواقع قيادية وبقاءهم فيها وقد عرف أن إمكاناتهم أقل بكثير من شغلها. جاء الأجنبي بمجموعة من المعايير والاشتراطات التي تطبق عادة في بلده، الأمريكي أمريكا، والاسترالي أستراليا، والفرنسي فرنسا، وطلب تعبئتها على مئات الأوراق ليحضر فيما بعد ويتحقق من امتلاء الأوراق بشكل صحيح ويمنح شهادات الاعتماد دون التحقق من تطبيقها، إذ يستحيل منطقياً عليه متابعتها وكانت النتيجة أن تم شغل أعضاء هيئة التدريس، وأكثرهم وافدون، بتعبئة نماذج وأوصاف مواد دراسية بعضها لا يتعدى الأوراق التي كتب عليها. النهاية حصول الجميع تقريباً على الاعتماد من هيئات عالمية، مع كثير من المال والترحال، ويبقى السؤال الأهم، هل كان لكل هذا الحراك انعكاسات فعلية على العملية التعليمية؟! بالطبع أصبح لدينا اليوم اعتماد وطني، ربما باستشارة أجنبي، ولكنه لا يختلف عن السابق كثيراً، فالخطط الدراسية ووصف البرامج تتنقل من جامعة لأخرى وخاصة فيما يتعلق بالتعليم الخاص ويتم اعتمادها بغض النظر عن ازدواجيتها، فالاعتماد ينظر له على أنه أمر إجرائي فقط.
التعليم والنظم التعليمية ليست اختراعاً جديداً، والعلم لا يعرف الخصوصية، وكثير من معاييره ووسائل جودته معروفة. وجميع دول العالم تطور نظمها التعليمية بشكل مستمر متوائم مع حاجاتها التنموية، ولديها أيضاً مشكلات ومعوقات، ولكنها قادرة دائماً على حلها والتطور بشكل أكثر سلاسلة وأقل كلفة منا. وقد روى لي زميل أنه ذهب إلى كيمبردج، الجامعة العريقة، ضمن وفد يطلبون منها اعتماد كليتهم، فكان رد المسؤولين، نحن لا نعرف عما تتكلمون؟
حلول التعليم لدينا لا يمكن أن تأتي من الخارج، ونحن نملك إمكانات لتطوير التعليم فيما لو توفرت إرادة سياسية واستقلالية علمية. وتطوير التعليم يأتي من تطوير العمل داخل القاعات والتأهيل الجيد للهيئة التعليمية سواء في الداخل والخارج. أما الأمور الشكلية كالحواسيب واللغة فهي أمور ثانوية. ومن واقع الخبرة فقد ضاعت أموال طائلة على تجهيز صفوف الإلكترونية لها من المشكلات ما يفوق محاسنها بكثير. والآيباد لا يعلم الطالب، فما يعلمه هو المادة المدخلة فيه والأستاذ الشارح لهذه المادة. وما زال التعليم في أمريكا وأوربا كما كان والحواسيب تستخدم للحسابات والكتابة فقط. والأمر ذاته ينطبق على مقترحات تعليمية بتعليم الإنجليزية لكل طفل تلميذ في مدارسنا على اعتبار أنه لو غير لسانه تغير عقله، ولكن صدمة الواقع في حيثيات تنفيذ هذا الموضوع أدخلته في غياهب النسيان ومعه مئات الملايين من المال العام. وبعض من تعلم الإنجليزية بالطبع أصبح يمارس التفكير غير المنطقي أحياناً من اليسار لليمين بدلاً من اليمين لليسار. فاتهمنا لغتنا وهي براء براءة الذئب من دم ابن يعقوب من بؤس حالنا.