د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
خلف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - حفظه الله- أخاه الملك عبدالله - رحمه الله- في الحكم بكل سهولة وسلاسة، وبشكل قطع دابر تخرصات كل الحاقدين والمتربصين، وظهر في اليوم الأول من توليه للعرش التفاف الشعب حول قيادة بشكل أقوى من أي وقت مضى..
واتضح بشكل جلي أن القيادة في المملكة دخلت فعلاً مرحلة جديدة كلياً من حيث أسلوب ومضامين إدارتها، أسلوب يعتمد حسم الأمور مباشرة وبسرعة بما لا يتيح مجالاً للتساؤلات والشكوك. وهذا الأمر لم يكن ممكناً لولا الخبرة الإدارية الطويلة للملك سلمان -أطال الله في عمره- الذي كان أيضاً شريكاً لأخيه عبدالله في كل صغيرة وكبيرة في أمور الحكم.
وقد عرف عن الملك سلمان سرعة البت في الأمور والشجاعة الاستثنائية في اتخاذ القرارات المصيرية مما يعزز الشفافية والوضوح بعيداً عن المراوحة والتردد. فتتالت القرارات التي تهدف لتنظيم عمل الأجهزة الحكومية وتطعيمها بالدماء الشابة والإبقاء على الخبرات القديمة قريبة من الديوان الملكي لتقديم النصح والمشورة.
واتخذ خادم الحرمين قراراً تاريخياً آخر ووجه رسالة واضحة جلية للعالم أجمع حول أسلوب حكمه وما يمكن أن يتوقعه الآخرون منه مستقبلاً، وهو قرار «عاصفة الحزم» الذي أظهر للجميع أن المملكة لا تتردد في اتخاذ أي قرار، منفردة أو مع حلفاء راغبين، في حماية سيادتها ومصالحها ومصالح وسيادة أشقائها في الخليج والعالم العربي. وكان القرار عكس توقعات كل من راهن على تحفظ المملكة وترددها في اتخاذ قرارات عسكرية مهمة.. فتفاجأ به بعض الأصدقاء قبل الأعداء.
واتضح أن المملكة كانت تبني قوة عسكرية ضاربة في هدوء وبعيداً عن الضوضاء، قوة تعتمد على النوع لا الكم.. ولعل من أهم جوانب هذا القرار حكمة، والأمر الذي لم يتطرق له كثير من المحللين وهو أن المملكة تريد من جيشها أن يخوض معارك قتالية حقيقة لاختبار قدراته وتطويرها وجعله مستعداً لأي طوارئ قادمة مهما كان حجمها. فالجيوش لا تتطور إلا من خلال اكتساب الخبرة المباشرة في حروب ومعارك حقيقة. كما أن عاصفة الحزم كانت اختباراً لجاهزية وقدرات القوات المسلحة السعودية وبعثت برسالة طمأنة للشعب والقيادة والأصدقاء على حد سواء. وأثبتت القوات السعودية قدرات واستعداداً للتضحية استثنائية شكلت رسالة ردع واضحة لكل من تسول له نفسه بالتطاول على السيادة السعودية في الخارج أو الداخل. ومهم أيضاً أن عاصفة الحزم عززت مواقف المملكة السياسية وقدرتها على التفاوض مع الخارج، فأصبحت القوة تدعم السياسة الخارجية بعد أن كانت مواقف المملكة تعتمد قوة الحق فقط وتدعمها المواقف والمفاوضات فقط.
أما على مستوى الداخلي فقد حسم خادم الحرمين الشريفين موضوع مصيري آخر مهم وهو موضوع الولاية في الحكم وضمان ذلك لأجيال قادمة، وهو موضوع لا يقل تعقيداً على المستوى الداخلي عن قرار عاصفة الحزم، لأنه، في واقع الأمر، هناك تقارب في السن والخبرة بين عدد لا بأس به من أفراد الأسرة المالكة مما يعقد موضوع مثل هذا. كما أن هناك رغبة واضحة للتجديد وضمان استمرارية توالي الحكم بشكل سلس مؤسسي يضمن للوطن استقراره وازدهاره. فحسم حفظه الله الأمر بتعيين المحمدين: محمد بن نايف ولياً للعهد، ومحمد بن سلمان ولياً لولي العهد، الأول من الجيل الثاني، والثاني من الجيل الثالث بعد أن ثبت أنهما الأقدر والأكفاء على قيادة البلاد في هذه المرحلة الحساسة، وبعد أن اتفق عليهما أغلبية مجلس البيعة والشعب، فكانت مبايعتهما بحشد غير مسبوق من المواطنين.
وقد أثبت المحمدان بما عرف عنهما من كفاءة وقدرة أنهما الأجدر بخدمة وطنهما من خلال هذه المناصب القيادية، والأقدر على اتخاذ القرارات المصيرية الحكيمة التي تضمن أمن وأمان الوطن في خضم هذا المحيط المتلاطم من الصراعات في منطقتنا.
ومما لفت الانتباه أيضاً عدم تردده حفظه الله في تعيين فرد من أفراد الشعب في وزارة سيادية مهمة وهي وزارة الخارجية، بعد أن شغلها شخصية بحجم العالم وهو سمو الأمير سعود الفيصل، الذي كرس بحق كامل حياته لخدمة وطنه. فقد آثر خادم الحرمين تعيين عادل الجبير في هذا الموقع الحساس لما يتمتع به من قدره دبلوماسية وخبرة في مجال علاقات المملكة مع بعض الدول المهمة رغم وجود كثير من الخبرات في هذا المجال من داخل الأسرة المالكة ذاتها، لكنه حفظه الله عيّن الأنسب والأكفأ للمرحلة.. ثم توالت قرارات مهمة أخرى يتردد حيالها عادة القادة والمسؤولون.. فنحن بلا شك أمام عهد سعودي جديد يتميز بالشجاعة والمبادرة والتجديد.
اتخاذ العزم منهجاً والحسم أسلوباً لا شك أمر ليس جديداً على السياسة السعودية لكنه مع سلمان اتخذ شكلاً جديداً، وكذلك تجديد دماء القيادات الذي تطور بها العمر بعد أن قدمت كل خبراتها للوطن رغم أن بعضها ما زال قادر على العطاء، فالتوقيت هنا مهم بأهمية القرارات ذاتها، فهو يسمح للخبرات القديمة المجربة تقديم خبرتها ومشورتها للقيادات الشابة التي قد تحتاج لمثل هذه المشورة مستقبلاً.
ولا شك أن التجديد ينطوي على الكثير الشجاعة لأن أمر تجديد البلاد وإعادة تنظيمها ليس سهلاً، والقيادة على ما أعتقد تعرف تحديات المستقبل وتطلعات الشعب وتسعى لتحقيقها؛ ولم يشمل أمر التجديد مسؤولين من الشعب فحسب، بل شمل أيضاً مسؤولين من الأسرة الحاكمة ذاتها، مسؤولين بادروا بأنفسهم بطلب إعفائهم لمنح الأجيال الشابة فرصة لقيادة الوطن. وقد ضرب الأمير مقرن، حفظه الله، مثلاً رائعاً في التضحية من أجل الوطن، حيث بادر بطلب إعفائه وهو ولي للعهد، ضارباً بذلك مثلاً للتضحية من أجل الوطن. ولا شك أن هناك غيره كثير من الأسرة الحاكمة الذين قدموا مصلحة الوطن على مصالحهم الشخصية.
بقي أن نقول: إنه بحجم التغيير تكون التطلعات، والمواطنون ما زالوا يتطلعون أن يستمر الإصلاح وأن ينعكس ذلك على أمنهم ومستوى ونوعية معيشتهم. ولا شك أن القيادة الجديدة الشابة ستجد نفسها أمام تحدٍّ كبير جداً وهو العثور على الخبرات الشابة الجديرة بتولي المسؤوليات في المملكة ليس لندرة مثل هذه الخبرات، بل لوفرتها، فالمملكة اليوم يتوفر لها من القدرات والخبرات من الجنسين كم هائل تحسدها عليه كثير من الدول، وأمر المفاضلة بينها للاستفادة منها؛ أمر ليس سهلاً.. فتجديد القيادات العليا لابد وأن يتبعه تجديد للقيادات المتوسطة والدنيا والخروج من دائرة الإدارة المعتادة التي لطول استمرارها بدأ البعض ينظر لها على أنها دوائر مغلقة.
لا شك أن جميع المواطنين مطالبون أيضاً بالتضحية في سبيل وطنهم على مختلف الأصعدة والقطاعات، سواء كان ذلك في مجال التعليم أو مجالي التوظيف والبناء، فنحن على أعتاب مرحلة جديدة نتمنى أن نضاعف الجهد فيها للبناء لاحتلال مكاننا الذي نستحقه بين الأمم، وأن نتخلص من اعتمادنا على موارد محددة للدخل لا سيما إذا كانت ناضبة لا محالة. وفي الختام اللهم وفق قيادتنا واحفظ وطننا من أيّ مكروه وسهل لنا سبل الأمن والرقي والرفعة.