د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
الدول والأحزاب والطوائف في منطقتنا العربية والإسلامية من ماينمار وحتى الجزائر لازالت في حالة اقتتال لا ينقطع. تسال الدماء وتتبعها الضغناء والمطالبة بالثأر لتأتي بقتال جديد ودماء جديدة وثارات جديدة في سلسلة متواصلة من التحريض والتحريض المقابل.
والتحريض ليس جديداً على الثقافة الإسلامية العربية أو أي ثقافة أخرى، و يكاد يكون ثقافة كونية تقف خلف جميع الحروب. وكاد التحريض والتحريض المقابل أن يدمر العالم في حروب كونية بين قطبين عالميين كبيرين استمرا في ممارسته لعقود إثر حربين كونيتين قتلتا ما يزيد عن 60 مليون إنسان. و يرتكز التحريض في مجملة إلى مجموعة نصوص لغوية متوارثة تكون متجانسة في رسالتها التي تدور حول انتقاص القيمة الإنسانية للطرف الأخر وتعميق الكراهية له وإلصاق التهم به و زرع الرغبة في الانتقام منه مما يجعل قتله مبررا. وغالباً يتم تغليف ذلك بغلاف قبلي أو عرقي أو ديني يخفي المصالح الحقيقية وراءه. فالخطابات التحريضية تخفي مصالح خاصة لجهات تتلاعب بها و تستغلها.
والتحريض في عمقه ظاهرة لغوية قد لا تستند لأي واقع أو قد تستند لواقع تم تشويهه وتضخيمه تتوارثه الأجيال المتعاقبة على شكل نصوص لغوية تضيف له من المبالغات والاستعارات حداً ينزله منزلة النص المركزي في الثقافة وينقله لمنزلة الحقائق القطعية. و يؤكد علماء التاريخ واللغة ممن درسوا هذه الظاهرة على سطوة اللغة في هذا الجانب فالعامة تؤمن بكثير من الأساطير و السير التي لا وجود لها إلا كواقع لغوي. وقد تبلغ سطوة اللغة بالعقل أن بعض الأفراد يصدقون بعض ما توارثوه من أساطير لغوية ويكذبون ما يرونه يخالفها بأم أعينهم أو ما يثبته العلم خلافه لهم. ولذا ومع تطور الدراسات اللغوية بعيد الحربين العالميتين ظهر تيار فكري وفلسفي قوي في أوروبا طالب بتصحيح اللغة لتطهير العقل البشري من التلوث الثقافي اللغوي وخاصة تلك التي تروج للتحريض والكراهية مستندة لمواريث لغوية أسطورية اكتسبت صفة القطعية. وكان أول ما أثبتته هذه الدراسات بشكل علمي هو تساوي اللغات في عمقها في قيمتها الإنسانية، وبالتالي تساوي جميع الأعراق والإثنيات التي تتكلم هذه اللغات. فتمت إعادة النظر في كثير من المسلمات السابقة التي استندت لها خطابات التحريض فكان لذلك الأثر الأكبر في ظهور ثقافات التسامح في أوربا وأجزاء أخرى من العالم. وهذا ما وضع العلوم الإنسانية التي تعنى بسلامة العقل وأساليب التفكير في قدر الأهمية ذاتها للعلوم الطبيعية التي تعنى بسلامة الطبيعة وصحة الجسد. ولم يشهد عالمنا العربي للأسف فرصا مشابهة لدراسات واقعنا اللغوي والتاريخي يتم بموجبه تخليص ثقافتنا من جوانبها التحريضية. وما زالت الحروب تشتعل في منطقتنا لأسباب لا صله لها مطلقاً بواقعنا أو لأهدافها الحقيقة غير المعلنة. فلا غرو ألا تحظى العلوم الإنسانية لدينا بالاهتمام الذي تستحقه.
دخلت أمريكا حروب طاحنة بين الجنوب والشمال حول أمور في أساسها عرقية ومذهبية ثم توحد الجميع تحت دستور واحد وحكومة واحدة أصبحت دولة عظمى تكفل مصالح الجميع وتضمن تعايشهم. وتحاربت دول المحور بقيادة ألمانيا ضد دول الحلفاء بقيادة بريطانيا وأمريكا وبعد سنوات ساد الوئام والتمت الدول على مصالحها المشتركة وتناست صراعاتها السابقة فظهر الاتحاد الأوربي. واستعمر البيض السود في جنوب أفريقيا لما يزيد على قرن، وعندما نجحت ثورة الحزب الوطني الأفريقي بقيادة نيلسون مانديلا في عام 1994م، وفاز الحزب في الانتخابات بعد صراع دام أكثر ستين عاماً، كان أول ما فعله مانديلا الدعوة إلى التسامح و الصفح ونسيان الماضي واستمر البيض جزء من النسيج الجنوب أفريقيا وتحولت جنوب أفريقيا إلى دولة ديمقراطية حقيقية.
أما في عالمنا العربي فلا تكاد السلطة تنتقل من حزب لآخر أو من شخص لآخر إلا وتبدأ سلسلة من الانتقامات التي لا تهدف إلى شيء إلا لإذلال الطرف الآخر. ولهذا ربما عدة أسباب لعل من أهمها تجذر ثقافة التحريض الانتقام في مجتمعاتنا وسيطرتها على عقول أفراده التي توارثوها من صراعات تحريضية سابقة تراكمت حولها خطابات أكسبتها أهمية مضافة ذات وجود ذهني فقط. وبدلاً من أن نفكر في الخروج من بؤسنا الحاضر أصبحنا نقتتل لتصحيح الماضي ليصبح حاضرنا ماضياَ نقتتل حوله في المستقبل!!
والانتقام والتصفية لا تكون جسدية فقط بل وتكون سياسية أيضا فالمنتصر في ثقافتنا يحصل على كل شيء والمهزوم لا شيء، والسلطة إما أن تكون مطلقة أو لا تعتبر سلطة مطلقاً. والسلطة في عرف ثقافتنا وطيلة تاريخنا لا تقبل المشاركة أو المناصفة ولذلك لم تنجح أي عملية انتخابية في أي دولة عربية. ورغم أن عالمنا الإسلامي شهد عملية أو عمليتين انتخابية ناجحة إلا أن الأطراف الفائزة استأثرت بالسلطة كلياً وحولتها إلى انتخابات صورية فيما بعد ضمنت لها سلطة شبه أبدية. وهذه ممارسة متجذرة في كافة مكونات المجتمع وعلى مستوى الأسرة أو الجماعة أو القبيلة أو الدولة، ثقافة كل شيء أو لا شيء. ولذلك لم تستطع الجماعات والأحزاب ذات التوجهات الإيديولوجية المشتركة ذاتها من التعايش فيما بينها، وتقاتلت حول خلافات هامشية خلقتها لهدف واحد هو الاقتتال والاستئثار فقط. فالإقصاء هو لغة الحوار العربي والإسلامي.
تولى مرسي، مثلاً، السلطة في مصر إثر قلاقل اجتماعية عارمة فسجن كل من له علاقة بنظام حسني مبارك حتى ولو كان موظفا متوسطا أو مأمور مخفر، واستعجل في سبغ السلطات الثلاث في المجتمع المصري بسبغة إسلامية إخوانية ضيقة تختلف بالطبع حتى عن مثيلاتها في الاتجاهات اليمينية الإسلامية ذاتها التي دعمته وصوتت له كالسلفية و الهجرة وغيرها. وانقلب على جميع القوى التي دعمت التغيير و أحدثته فقفز هو وحزبه من هامش الثورة لقلبها وكتب دستوراً إخوانياً وأسس مؤسسات إخوانية، واتبع سياسات خارجية إخوانية، وأسس محاكم على مختلف المستويات اشترط فيمن يشغلون مناصب بها أن يكون جباههم موسومة من كثرة السجود. أي سجود؟ الله ورسوله أعلم.
ثم انقلب السيسي على مرسي فيما سمي عملية تصحيح، وإعادة الثورة لمسارها الصحيح، أي تصحيح للتصحيح، فتغير كل شيء في شكل ومحتوى السلطات الثلاث إلى الاتجاه المعاكس بحركة بندولية، فتغير القضاء وتغيرت المحاكم وعلقت المجالس التشريعية وتم سبغ الدولة بسبغة عسكرية. ثم أدخل جميع من يمت بصلة لحكومة سلفه في السجن، وبعد محاكمات أفرج عن رموز النظام السابق للإخوان، وأدخل رمز الأخوان للسجن!!
اليوم وللأسف يبتعد حلم التعايش بين مكونات منطقتنا في ظل الثارات المتوارثة المتواصلة، فالحروب تشعل لأتفه الأسباب وهي في حقيقتها تدور حول السلطة وما تأتي به من تصرف مطلق بالشعوب. وهذا لم يكن أمراً طارئاً على مجتمعنا فنحن كنا نحلم دائماً كما، روج جمال الدين الأفغاني، بالمستبد العادل، لأن الاستبداد والاستئثار هو الناموس السلطوي في التاريخ الإسلامي العربي الحديث، وهو أمر مفروغ منه. فتحقق لشعوب منطقتنا الجزء الأول من الحلم وبقي الجزء الثاني ينتظر فرج من عند الله.